2/2
يرى الفيلسوف عادل القليعي أن المشاريع الفلسفية الكبرى في الوطن العربي، تأرجحت بين النجاح والفشل، بمعنى فشلت فشلا ذريعا عندما اصطدمت بالتيار أي الأصولية الإسلامية التي تمركزت حول الثابت، ولم تنطلق منه وتجعله قاعدة انطلاق للأمام فأصابت الفكر بالركود والمركزية، وهنا لم تستطع هذه المشروعات الصمود. ونجحت عندما وجدت من يناصرها من التيارات العلمانية والشيوعية واليسارية. ويضيف أن الصدامية ستظل قائمة حتى بعد وفاة أنصار هذه المشروعات، فحتى وإن رحلوا عن دنيانا فأنصارهم كثر ومؤلفاتهم تملأ الدنيا.
في الجزء الأول من هذا الحوار نناقش مع الفيلسوف عادل القليعي، أهم القضايا الفلسفية، والمشاريع الفكرية، والإشكاليات التي تعيق عمل الفلسفة والفيلسوف.
- هل توجد مشاريع فلسفية اليوم أم رحلت مع روادها الكبار؟
هذا سؤال جد خطير ومهم، لكن في البداية دعنا نتعرف على ماهية المشروع الفلسفي ، فما المقصود بالمشروع الفلسفي ، هو فكرة تؤرق صاحبها بل وتقلق مضجعه فلا يستطيع حتى النوم على فراشه ، بغية الوصول إلى تأطير وتنظير لهذه الفكرة التي تداعب ذهنه، بل ويحاول جديا أن يخرجها من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل أي من ممكنة الوجود إلى واجبة الوجود أي واقع يحياه كل من هو مهموم بالفكر، سواء كانت هذه الفكرة فلسفية أو دينية أو إجتماعية أو ثقافية أو نفسية أو اقتصادية .
إذن يعكف ذهنيا على بلورة هذه الأفكار في سياقات فكرية منظرا لها ومطورا مستدعيا قانون تداعي المعاني الفكرة تستتبع الفكرة ، إلى أن تأخذ هذه الأفكار شكل المشروع الذي يبدأ تطويره وفقا لمتطلبات العصر متماشيا مع تغيراته وانعكاسات ذلك على المتلقي وعين الناقد الذين سيقيم هذا المشروع.
ولدينا مشروعات كثيرة: مشروع عبدالله العروي ، مشروع طه عبد الرحمن ونقده للحداثة الغربية بالعقل العربي ، مشروع الصفدي ، مشروع عابد الجابري في تجديد التراث ، مشروع حسن حنفي تجديد الخطاب الديني ، مشروع الطيب تيزيني وفكرة تاريخانية النص والتي بائت بالفشل ، ومشروعات جورج طرابيشي في نقد العقل العربي العقل المقلد وكيفية الانتقال به إلى العقل الناقد المواكب المعاصر دونما إفراط أو تفريط.
لكن السؤال المهم ، هل هذه المشروعات نجحت أم فشلت ، الرأي عندي تأرجحت بين النجاح والفشل ، بمعني فشلت فشلا ذريعا عندما اصطدمت بالتيار أي الأصولية الإسلامية التي تمركزت حول الثابت ولم تنطلق منه وتجعله قاعدة انطلاق للأمام فأصابت الفكر بالركود والمركزية وهنا لم تستطع هذه المشروعات الصمود. ونجحت عندما وجدت من يناصرها من التيارات العلمانية والشيوعية واليسارية.
والرأي عندي، الصدامية ستظل قائمة حتى بعد وفاة أنصار هذه المشروعات، فحتى وإن رحلوا عن دنيانا فأنصارهم كثر ومؤلفاتهم تملأ الدنيا.
أما أنه لا توجد مشروعات فلسفية، ألسنا الآن نعد سويا لمشروع فكري، أليس هذا الحوار ينظر لفكر بناء قد يستفيد منه من يقرأه وينتقده أو ينتقضه أي يهدم، المشروع الفكري يوجد أنا يوجد المفكر، طالما يوجد مفكر إذن لابد أن يوجد مشروع ودليلي على ذلك ، مشروعي الحضاري التأويل والتجديد، كيف نوظف النص الديني وناوله تأويلا يتوافق مع العصر ومستجداته ومتغيراته دونما الإخلال بالثوابت، أي نوظف الثابت لخدمة المتغير، الثابت النص، والمتغير الواقع وهذا يثبت العلاقة الوطيدة بين الثابت والمتغير، بما يقر بحركية واستمرارية وديناميكية النص ومواكبته.
في نظركم، أي دور تلعبه الفلسفة في هيكلة العقل العربي؟
ساجيبك على هذا السؤال من خلال هل للفلسفة دور في قضايانا المعاصرة؟
إذا ثبت هذا الدور وتحقق في واقعنا العيش سيتم هيكلة العقل العربي الذي هو نعمة من الله تعالى وبما إنه كذلك فينبغي علينا أعماله في كل صغيرة وكبيرة.
فهل للفلسفة دور في قضايانا المعاصرة، أي هل لها دور في معالجة قضايانا المطروحة على الساحة العقلية.
الفلسفة ليس كما كان يدعي البعض قديما أنها عديمة النفع وليست لها فائدة تعود علي الفرد وعلي المجتمع، وما هي إلا بحث عن المجهول وما هي إلا نشاط ذهني وعقلي يرهق صاحب وقد لا يصل إلي شيء وقد يودي به إلي التيه والضلال، وأن الفيلسوف ما هو إلا إنسان يبحث عن قطة سوداء في ليلة ظلماء في حجرة مغلقة معتمة.
لكن السؤال الذي أعتقد أنه مهم، أليس كل واحد منا بداخله مفكر، حتى على الأقل يفكر في همومه ومشاكله، أليس هذا التفكير يعبر عن رأي صاحبه في محاولة منه لإيجاد حلول لما يتعرض له من مشكلات حياتية قد تؤرق مضجعه، إذن هو يفكر، إذن هو موجود إذن هو يحاول أن يقدم حلولا، هذه المحاولات الحثيثة هي طريق للتفلسف فما الفلسفة إلا إثارة التساؤل، والإجابة علي هذا التساؤل هو روح التفلسف.
إذن الفلسفة هي محاولة لإيجاد حلول لما نعانيه من مشكلات.
الإنسان المفكر المتفلسف لا يمكن بحال من الأحوال أن ينفصل عن واقعه، بل نجد أن المفكر الحق هو الذي يكون مهموما بقضايا مجتمعه ووطنه الذي يعيش فيه، ومهموما بقضايا واقعه المعيش.
نحن أبناء القرن الحادي والعشرين لسنا أحسن حظا من سابقينا، علي الرغم من أن عصرنا عصر التقدم التقني، وثورة المعلومات، والتحول الرقمي، والفكر الحداثي، وإتاحة الكتب والمكتبات بضغطة زر نحصل علي ما نريد، وهذا كان لا يحدث قديما، لكن كل ذلك يزيد من العبء الذي يثقل كواهلنا، فإنسان اليوم ليس إنسان الماضي، ولن يكون إنسان المستقبل، إلا أن لكل عصر مشكلاته وقضاياه التي إذا لم تقدم لها الحلول الناجحة المبنية علي تفكير منطقي سليم، سيحدث مالا يحمد عقباه.
أزماتنا كثيرة ومتلاحقة مجرد أن يحدث بارقة أمل لحل إحداها تلاحقنا مشكلات أخرى كثيرة، يا سيداتي وسادتي إنها الحياة التي نعيشها، والفلسفة حياة، ولكم في الفلسفة حياة يا أولي الألباب، يا أصحاب العقول النيرة المستنيرة، فهل أعملنا عقولنا ووظفناها التوظيف الصحيح للخروج من هذه الأنفاق المظلمة التي باتت كقطع الليل البهيم.
أزماتنا كثير، منها أزمة القيم الخلقية والانسحاق القيمي ونزعات اللامبالاة والانهيار الأخلاقي، أليس للفلسفة دور في إعادة ترتيب المنظومة الأخلاقية من خلال دراسة مستفيضة ليس من أجل الدراسة وإنما للانتقال من مرحلة التنظير إلي مرحلة التطبيق.
أيضا لدينا مشكلات معاصرة مثل تجديد الخطاب الديني، ليست هذه مشكلة معاصرة، وإنما معاصرتها في الطرح وكيفية المعالجة، أليس للفلسفة دور في معالجة هذه القضية، ألم تعقد الندوات المعلنة والندوات التي تعقد في الأروقة المغلقة لمحاولة إيجاد حلول ترضي عقولنا، من المنوط به تحمل هذه المسؤولية التي سيسأل عنها أمام ضميره قبل أن يسأله التاريخ عنها.
وأكرر قضايانا كثيرة وملحة ألم تضربنا أزمة جائحة كورونا التي أوقفت العالم علي قدميه ولم تقعده إلي الآن، الكل يتباري ويتسابق لإيجاد حل لها، علي كافة المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية، ما دورنا نحن ونحن أبناء الفلسفة.
وغيرها من الأزمات، أزمات المناخ والتغيرات المناخية وتغير خارطة العالم المناخية أليست هذه مشكلة تسترعي الانتباه والاهتمام.
ثم أزمتنا الكبرى أزمة الأمة بأسرها أزمة العالم، السلام العالمي، أزمة قديمة، ووسيطة، وحديثة، ومعاصرة، أزمة حياة، تناولها الفلاسفة منذ القدم، تحدث فلاسفة الرواقية عن الإخوة العالمية، تحدث فلاسفة الإسلام ولا سيما الفارابي ومن قبله أفلاطون حكيم اليونان ومن قبلهما كونفوشيوس حكيم الصين عن الأمن والأمان والسلم والاستقرار، تحدث حديثا توماس مور، تحدث ايمانويل كانط في كتابه المشروع الدائم للسلام العالمي.
والآن كل زعماء العالم ومجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والمؤسسات الدينية الجميع يردد نشيدا واحدا ويدعو دعاء واحدا، التعايش السلمي بين الشعوب، وطرح العنصرية البغيضة والطائفية المرذولة، وطرح خطاب الكراهية وتحريض البعض علي البعض، وعدم الزج بالأديان في هذا المعترك، فجميعنا يعبد ربا واحدا ويدين بدين واحد، هو دين المحبة والسلام. انبذوا خطابات التحريض وليعيش الجميع في سلام ولنصلي لرب السماء في مصلانا، في مساجدنا، في كنائسنا، في أديرتنا، أطرحوا الكراهية من نفوسكم، من قلوبكم.
إذا لم يكن هذا دورنا نحن المفكرون، نحن الباحثون، فمن سيتصدي ويتصدر لمواجهة هذه الأزمات.
أين دور العقل العربي هنا.
- كيف ترون حال الفلسفة في الجامعات العربية الآن؟
أصدقك القول حالها تشتكي إلى الله ، ومن بعده تشتكي لعقولنا ، قائلة لماذا أهملتموني ، لماذا لم توظفوني مستخدمين عقولكم توظيفا صحيحا للنهوض بأمتكم العربية ، ماذا فعلتم بتراث أجدادكم الفلاسفة ، سبحتم بحمده ومجدتموه بالشعارات الجوفاء، لسان حالها يقول لنا لماذا تركتم هذا الموروث الفلسفي على الأرفف وفي الخزانات تأكله القوارض، لماذا لم توظفوني وتوظف فكر وفلسفات أجدادكم لإحداث صحوة فكرية تتماشي مع العصر ومتغيراته.
يا سيدي الفاضل ماذا فعلنا نحن الفلاسفة انقسمنا إلى فريقين ، فريق مدرسي تقليدي عكف على دراسة وتدريس فكر الآباء والأجداد دون إضافة جديد ، تقليد في تقليد يخرج لنا خريج مقلد ، لماذا لا نوظف عقلانية ابن رشد لمعالجة قضايانا المعاصرة.
والقسم الآخر القسم الحداثي الذي انجرف مع التيارات الغربية وسار خلفها، نحن لا نرفض المواكبة والمعاصرة والحداثة، لكن بضوابط، لابد أن يكون لنا موقف من العقل الغربي، فليس كل ما يقدمه العقل الغربي يلاقي قبولا.
وعندما تدخل في منافسات مع الفريقين يقودانك إلى جدل عقيم وسفسطة تأخذك إلى لا شيء وتعود من حيث بدأت ، ما الذي يلف ويلف ويدور ويبحث عن مكان وهو يلف حوله.
إذا أردنا حقا نهضة للفلسفة لابد من الموائمة بين الفريقين نابذين التعصب الأعمى وقبول الرأي الآخر.
وإن كان الأمل موجود في بعض الأطروحات التي ناقشتها مؤخرا عن الطيب تيزيني وعن حسين مروة ، وعن نقد العقل العربي للعقل الغربي عند الصديق وطه عبد الرحمن.
بدأ الباحثون في التحرر من هذه النزعة الكلاسيكية القديمة من الحديث عن الذات والصفات ، والله والعالم والإنسان ، وبدأنا النقاش حول البنيوية والتفكيكية والحداثة وما بعدها ، وبدأت دراسات عن الفكر الشيعي، ولابد أن يعلم كل باحث في الفلسفة أن الفكر الإنساني لا دين له ولا وطن.
ساعتها ستمجدنا الفلسفة وسيحمد صنيعنا الآباء والأجداد.