إن قضية إشكالية السلطة والنخب المثقفة، في الغرب قد حسمت جزئيا، إذ أصبح الاهتمام موجهاً إلى آلية انتقال السلطة وممارستها من خلال مؤسسات سياسية وثقافية صلبة. ولم تعد السلطة الثقافية جهة تشريعية، أو تعطي الشرعية للسلطة السياسية أو توطد وجودها. فقد استطاع النقد الفكري الحديث والعمل العلمي الجاد أن ينهيا، مع مفاهيم الحق المطلق والسلطة الشمولية في الحكم، من الفكر السياسي وتم التوحيد بين السلطتين بحسب معايير خاصة بكل مجتمع. أما في مجتمعنا العربي فإن الأمر جد معقد حيث سيطرة الفكر القبلي والعشائري والسلط الشمولية والعسكرية والمتزمتة، وهي مجتمعات إجمالا لا دينية ولا علمانية ولا إطار إيديولوجي لها تعيش على هامش الحضارات والتقدم الإنساني.
للأسف لا توجد أبحاث كثيرة حول هذا الموضوع، وإن وجدت فهي خاضعة لتأثيرات إيديولوجية أجنبية، إذ لا تنطلق من الواقع الثقافي والاجتماعي التاريخي للمجتمع العربي. وأعتقد أن المشكلة القائمة الآن بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية هي أصل العلل التي يعانيها الواقع العربي، وهي مشاكل تمتد لكل المجالات، التربوية والاجتماعية والتنموية والثقافية والسياسية.
وتشكل الحياة الاجتماعية نظاماً متكاملاً تترابط كلّ عناصره فيما بينها بشكل متناسق، كما أن القيم والعناصر المكونة للنظام الثقافي متمثلة ومختزنة بأمانة في أعماق الفرد، وتشكل برنامجاً خفياً يضبط سلوكه وينظّمه بشكل آليّ تلقائي يقوم في الغالب على الفعل وردّ الفعل.
العلاقة بين الإنسان والثقافة المجتمعية التي ينتمي إليها ويعيش فيها هي علاقة أكيدة، وهي التي تحدّد معنى وجوده من خلال ضبط سلوكه اليومي في كل مجالات الحياة ولاسيما الثقافية، فالقيم والعادات وقواعد السلوك ومفهوم الأخلاق تمثل في مجملها مفهوم الثقافة السائدة. ولما كانت هذه المفاهيم لا وجود لها من غير الأفراد في المجتمع فقد تبيّن أن هذه المفاهيم هي عين الأفراد في المجتمع الواحد، بمعنى أنها تنظم سلوكهم اليومي، وتضبط علاقاتهم الاجتماعية، وتحدد مواقفهم وأفعالهم وردود فعلهم في السلوك، وهذا ما يجعلنا نقول إن الثقافة الاجتماعية إنما تتجسد في مجموع الأفراد في المجتمع وإن العلاقة بين الثقافة والمجتمع علاقة أكيدة من خلال تمحورهما على الإنسان في ذلك المجتمع.
إذن الثقافة هي مجموع الأفكار والمعطيات التي تظهر بشكل منظم فيما بينها وتتشكل من الأنساق المعرفية الاجتماعية المتعددة التي تنظم حياة الفرد ضمن جماعة تشترك فيما بينها في الزمان والمكان. فالثقافة هي التمثيل الفكري للمجتمع الذي ينطلق منه العقل الإنساني في تطوير عمله و إبداعاته، فهي بالتالي تحدّد هوية المجتمع في كافة أبعاده المادية والمعنوية.
ولعل ما تعاني منه الهوية الثقافية المحلية أنها ابتعدت عن جمهور الناس و المجتمع، تعيش في أبراج خاصة تنأى بنفسها عن المجتمع بحجة أن المجتمع متخلف. وتدعو إلى تغييره وتقويمه من خلال فرض الثقافة التي تريدها النخبة عليه، فقد ظل المجتمع عامة يرفض تلك الثقافة الغربية ويتهمها لأنها ليست منه ولا تتفق مع نظرته العامة، وظلت الثقافات المحلية الأصيلة والتراثية والدينية في المكتبات، وإن كانت في جزء منها تعرضت للتشويه على أيدي بعض المثقفين المستغربين عندما نظروا فيها من خلال مناهج غربية بعيدا عن سياقها المعرفي التاريخي في محاولة لتشويهها تسوّغ دعواهم بأنهم السبب في تخلف المجتمع العربي.
ولعل مشكلتنا تكمن في استبعاد الثقافة العربية التاريخية من توجيه الثقافة العامة المسيطرة والثقافة غير المباشرة، وقد رأينا أن العلاقة بين الثقافة المباشرة وغير المباشرة في مجتمع ما علاقة جدلية، وعندما تضطرب هذه العلاقة فإن الخلل سوف يحدث داخل الثقافة غير المباشرة، إذ تفقد مرجعيتها التاريخية التي تشكل مقياساً وموجهاً ومقوماً وداعماً لها في وجودها اليومي الذي يتعرض باستمرار إلى هجوم الثقافة المباشرة الحديثة ذات المصدر الغربي.
كما أن الخطر الحقيقي الذي يهدد الهوية الثقافية المحلية اليوم لم يعد موجهاً إلى الثقافة المباشرة العربية الحاضرة، فهي في واقعها غربية وتغريبية لا أصالة لها، ولم تستطع أن تتأصل في المجتمع العربي الحديث، وهي لا تشكل هويته الحقيقية، وإنما الخطر في تلك الهوية المزيفة التي نجدها لدى البعض.
لقد مضى ما يناهز قرن على بداية النهضة العربية، وأعتقد أنه حان الأوان لطرح مسألة “النهضة” للتساؤل والتمحيص، فنعرف مالها وما عليها. وحين ننظر إلى ما نحن فيه وخصوصا منذ اندلاع الخراب العربي فنرى أننا في كل مواقفنا لا ننطلق من فعل واعٍ منظم ينطلق من معرفة دقيقة بواقعنا، وإنما ننطلق في مواقفنا غالباً من ردود فعل على ما يصدر من الآخر تجاهنا وخصوصا الغرب.
إلا أننا لا يمكن فهم واقعنا إلا بتحليل العلاقة بين السياسي والثقافي وفهم السلطة فهما حقيقيا. فالسلطة ليست موضوعاً سياسياً صرفاً يتجسد في كيان ما، وإنما نقصد بها وضعية معقدة للعلاقات في مجتمع ما، وهي علاقات تُمارس انطلاقاً من نقاط لا حصر لها، وفي إطار تناسبات متحركة غير متكافئة. وأي سلطة هي علاقة يجب تحليلها وفهمها من خلال منطلقين: الأول الذي تصدر عنه الرسالة أو الأمر، و الثاني الذي يتلقى تلك الرسالة أو يخضع لذلك الأمر.
وكل فرد في المجتمع هو عضو فعال في خلق السلطة، فهو من يصنع السلطة، ثم ينتمي، في إطار النظام الإنساني، إلى واحد من أشكالها، ويقوم بأدواره الاجتماعية انطلاقاً من هذا الانتماء، ويتكيّف في سلوكه معه. إن هذا يعني أنه ينطلق في وجوده السلطوي الاجتماعي من الحرية إلى الالتزام، ومن الاختيار إلى الإكراه، فالسلطة لا تتولد من تعارض بين المُسيطِر ومن يقع تحت السيطرة، وإنما من علاقة تنشأ بين الجانبين معاً.