أخبارفي الصميم

المثقف وسؤال نقد السلطة ومعادلة الاقتراب والاغتراب (2/2)

أي سلطة يحاول بناءها المثقف المعاصر؟

تزامن ظهور أزمة المثقف وعلاقته بالسلطة السياسية في البلاد العربية مع ظهور أزمة أكثر خطورة وأعمق أثراً في مستقبل البلاد العربية، هي أزمة الهُوّية التي تتشابك بعدة قضايا إشكالية ما تزال الدول العربية تعاني منها إلى اليوم، وفي طليعتها “تحديد طبيعة الأنظمة السياسية التي أسفر عنها زوال السلطنة والاستعمار، ومكانة اللغة والدين وقدراتهما على تعبئة الفرد، ووضع التراث والعلاقة التي تربط بين اللغة والتراث وهذه الأنظمة، والعلاقة بين الهُوّية المحلية القطرية، والهُوّية العربية الإسلامية.

بقلم عبدالله العبادي

كما أن معظم الأنظمة العربية التي ظهرت بعد الاستقلال أقدمت، إثر اصطدامها بمعارضة الأمة، على تغيير النظام الكوني من خلال فرض الأنظمة العلمانية المستمدة من الثقافة الغربية وأنظمتها السياسية والاقتصادية و العمل على تهميش ذلك النظام القائم والإساءة إلى ممثليه وتشويه تفسير العلاقة بينه وبين النظام الإنساني في المجتمع العربي، ومن ثم عزلهم عن الأمة التي كانت ترى فيهم مرجعاً لها، بصفتهم يشكلون صلة الوصل بين النظام الكوني في الأمة والنظام الإنساني فيها. وبذلك كانت تلك الأنظمة تخلق شرخاً عميقاً وانفصاماً كبيراً في ذات الأمة وكانت النتيجة جمود وتخلف الشعوب العربية.

و بداية المشكلة بدأت مع اتصال العرب بالثقافة الغربية في بداية القرن التاسع عشر. وقد صوبوا اهتمامهم إلى أنظمة الحكم والمفاهيم السياسية السائدة في أوروبا آنذاك، رغبة في تقليدها ونقلها إلى المجتمع العربي، مع التأكيد بأن هذا التقليد هو وحدَه الكفيل بتقدم المجتمع العربي.

 وسادت في هذه الفترة مرجعيات أخرى لا علاقة لها بالنظام الكوني السائد في المجتمع العربي، وإنما تم التركيز على الفكر السياسي الغربي، وظهرت مقاييس جديدة في الحكم على الأمور صيغت تحت اسم الحرية والتقدم والمدنية والعالم الحديث. فجاءت كتابات أمثال أحمد لطفي السيد، الذي تجاهل فكرة المجتمع الإسلامي، وأصبح الهجوم على النظام الكوني أمراً مسوغاً واعترف بأن لا علاقة له بقضايا العالم الحديث. وأيضا كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق الذي يزعم بأن لا وجود لما يسمونه بالمبادئ السياسية الإسلامية.

لقد استطاع الغرب ، منذ القرن التاسع عشر، أن يزرع بذور التقسيم بين النظامين الكوني والإنساني في المجتمع العربي. وبذلك ساد الصراع بين ثلاثة تيارات متناحرة الأول ديني يمثل النظام الكوني في المجتمع العربي (ديني وليس الإسلام السياسي)، والثاني غربي- علماني يدافع عن الثقافة الأوروبية، ويدعو إلى تبنيها، والعمل على نشرها أما التيار الثالث فهو التيار الإصلاحي وهو التيار الذي عمل على الجمع والملائمة بين التيارين، وقد استمر وجود هذه التيارات تحت ظل الاحتلال مع دعم واضح من المستعمر للتيار الثاني من أجل قيادة المجتمع بعد دلك.

بدأ مفهوم الدولة الحديثة بالظهور أثناء الاستعمار الذي دعم هذا المفهوم وعمل على توطيده، وهو ما جعله يترسخ بعد الإستقلال بظهور مفهوم الدولة القطرية / أو الدولة السيادة، ذات العلم والنشيد الوطني والحدود. وهو ما شكل واقعاً سياسياً و ثقافياً مشوها و يتعارض مع الدعوة التي كانت تنتشر في كل أنحاء العالم الإسلامي، والتي كانت تدعو إلى الوحدة السياسية والثقافية، وإقامة وطن واحد بحسب النظرية القومية. إلا أن المستعمر أجهض كل الأحلام ونجح في فرض التجزئة والتفرقة.

لقد عانى الواقع العربي من انتكاسات اجتماعية وسياسية عدة، زادت من عمق الهوة التي تفصل بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية في المجتمعات العربية. كما أن الأفكار التقدمية قد أخفقت في تحرير الإرادة الجمعية من أجل تحقيق المصالحة بين الأمة والتاريخ والحضارات الأخرى، وبدل أن تفتح آفاقاً جديدة ومتجددة للمجتمع والحياة الجماعية عمقت فيه الشروخ والهوة بين أفراده.

عانت السلطة الثقافية من ممارسات مضادة من الأنظمة السياسية، التي رأت في هؤلاء خصما لها وعائقاً يتعارض مع أفكارها القائمة على مفاهيم سياسية واقتصادية تنتمي إلى نظام جديد يقوم على مفهوم الحكم المطلق. وبذلك استبدلت المرجعية التي كان على المجتمع أن يحتكم إليها في علاقته بالسلطة السياسية ومؤسساتها الجديدة ودخلت النخبة في صراع سياسي وفكري مع الأنظمة الحاكمة، و أدى هذا الواقع الجديد إلى صراع مباشر بين الأنظمة من جهة وممثلي النظام المجتمعي و الإنساني من جهة أخرى.

وقد أدركت الأنظمة اتساع الشرخ بينها وبين المجتمع والأمة، وعرفت أنها لن تستطيع الاعتماد على ممثلي النظام الثقافي فيها، وهي التي عارضته واعتبرته خصما، فكان على هته الأنظمة إيجاد مثقفين من صنعها و يمثلونها وقد نجحت في ذلك وسعت إلى إجبار المجتمع على قبوله وإعادة تشكيل وجوده بحسب ما يفرضه ذلك النظام، وبذلك قامت الأنظمة بخلق سلطة ثقافية خاصة بها و مرفوضة من طرف الأمة.

لقد شكل النظام الكوني والإنساني منذ القدم هوية الأمة، لأنه يشكل تصور المجتمع لنفسه وذاته، والصورة التي يبنيها عن عالمه ووجوده، ونوعية العلاقات التي تربطه بالكون والمجتمع والسلطة، والقيم الأساسية التي تجسد ماضيه وحياته ومستقبله، إنه بذلك يشكل روح  ووجوده وهويته. ولا شك في أن أي تجاهل لهذه الذاتية أو محاولة تغييرها أو خلخلتها ، وهي التي تشكل محور وجود النظام المجتمعي وما يجسده من مفاهيم كالوطن والمواطن والسلطة والسياسة، سوف يجعل من أية محاولة تطوير أو تقدم في المجتمع مجرد عملية تراكم للأفكار والمعتقدات بدون فائدة، واستيراد للثقافة والأفكار والقيم الجاهزة.

في حين كان لا بد من عملية بناء للإنسان وترميماً للحياة النفسية العميقة، تعليماً، تربية وتثقيفاً..

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button