يقول المفكر الإصلاحي محمد رشيد رضا، وهو يصف حال الأحرار الذين يناضلون في مجتمعات جاهلة: الثائر لأجل مجتمع جاهل مثل الشخص الذي يضرم النار بجسده كي يضيء الطريق لضرير.
ألسنا بحاجة كعلماء اجتماع وباحثين في العلوم الاجتماعية عامة، البحث أولا أن أسباب عدم نجاح كل القناعات والنضال التي قام بها معظم الثائرين والباحثين عن بصيص الحرية وبناء الديمقراطية، والبحث أيضا عن العلاقة التي تجمع بين المثقف وجمهوره والعامة.
هل مجتمعنا في كامل قواه الواعية ليتفهم معنى النضال والبحث عن منافذ جديدة للتغيير، وهل هو مستعد لهذه الاستحقاقات البناءة، أم يعيش المدافع عن الحرية والكرامة في واد، والعامة في واد آخر، غير مبالين بما يحصل حولهم، وأحيانا لا يريدون أن ينصتوا ولا يبحثون عن فهم ما يجري من الأحداث، بل يتركون الأحداث هي من تصنع مصائرهم.
يقول سعدالدين ابراهيم، إن أسوأ صورة للمستقبل تلك التي تنتج عن الموقف السلبي من محاولة صنع المستقبل، وترك الأحداث تصنع مستقبل الناس. ما يجري في العديد من البلاد الثالثية ومجتمعنا، هو صورة حقيقية لهذا الفشل الذريع للسياسات الإصلاحية، أحيانا يحصل تذمر الأحرار من محاولاتهم العديدة لإصلاح أعطاب المجتمع والسياسة، فينتهون بترك الساحة، الشيء الذي يفسر التفاهة والشعبوية الطاغية الآن في كل مناحي الحياة.
كل الطاقات الفكرية والنقدية تم تفجيرها في مجتمعات غير مؤهلة للفهم الصحيح، أحيانا دفع ثمنها غاليا مثقفون أمنوا بفكرة الإصلاح والتغيير. لقد أخضع جل المثقفين كل الأنظمة والمؤسسات السياسية للنقد وأدوات التسيير والثقافات المهيمنة والأفكار السائدة، وجل الأحزاب والهيئات السياسية، بل تم نقد الذات أحيانا، من أجل الطبقات العاملة وعموم المهمشين في المجتمع.
وحدها الجماهير الشعبية التي يتم وضعها تحت مجهر النقد، واعتبرت لأزمنة طويلة فئات يجب الدفاع عنها وكأنها بلا خطيئة، متناسين البحث في أهم الأسباب التي جعلتنا نفشل في الكثير من المواقع النضالية، وأن هذا الجمهور العريض الذي ندافع عنه هو أحد الأسباب والعلل والمشاكل. نعم هذا الواقع الذي تعيشه العامة سببا كافيا لفشل أي مشروع إصلاحي.
يقول كوستاف لوبون، تميل الجماهير إلى احترام القوة لا الطيبة، فالطيبة عندهم شكل من أشكال الضعف، فهي لا تقيم النصب التذكارية إلا للمستبدين، وإذا كانت تدعس بأقدامها الدكتاتور المخلوع، فذلك لأنه فقد قوته فدخل في خانة الضعفاء الغير المهابين. بين الضعف والقوة والطيبة تضيع حقيقة المفاهيم التي نبحث عنها. وعلى النحو نفسه يرى ابن خلدون أن العبيد هم أحد أسباب صنع الاستبداد فقال: لو خيروني بين زوال العبيد وزوال الطغاة، لاخترت بدون تردد زوال العبيد لان العبيد من يصنع الطغاة.
فالعامة تختزل كل أشكال الفساد والرشوة والضامنة لوجودها واستمرارها، شعوب تشغلها التفاهات عن رؤية الواقع بأعين مفتوحة وناقدة، شعوب تعشق الاستهجان وتتصارع من أجل مباريات كرة قدم والبطن فارغة، وتساند تفاهة البرامج الغنائية والمسلسلات الغرامية التي أتت على الأخضر واليابس في مجتمعات بدون بوصلة.
إذن علينا أن نبدأ بنقد مفاهيمنا عن الشعوب والجماهير التي نناضل من أجلها، قبل أن ننتقد مفاهيمنا، وحين نفهم جيدا هذا الشعب، قد نصل آنذاك إلى طريق جديدة وملامح جديدة للإصلاح والتغير.
نعيش اليوم في عالم بدون معالم حقيقية، عالم غامض كما قال كرامشي، العالم القديم انتهى والعالم الجديد تأخر في الظهور وما بين العتمة والضوء تولد الوحوش.
فهل سيبزغ الفجر قريبا أم سيطول الظلام وتتناسل الوحوش؟