بيير بورديو .. قصة مثقف مناضل
“بورديو أيقونة علم الاجتماع، في رأيي، وأخر السوسيوولوجيين المناصرين للقضايا العادلة ومناهضي العولمة”
يقول عنه هابرماس، “مع اختفاء بورديو، اختفى أحد آخر كبار السوسيولوجيين في القرن العشرين، والذي لم يكن يأبه بتخوم التخصصات وحدود المجالات”. شهادة من فيلسوف كبير من حجم هابرماس، في حق رجل كرس حياته للعطاء الفكري، ونقد كل ما يمكن أن يخدم المجتمع والإنسانية. خاض بورديو غمار التحليل العميق لقضايا اجتماعية عدة يصعب إحصاءها، قام بتحليل الطبقات الاجتماعية ونظام المدرسة والثقافة والفن والدولة والسياسة…
بورديو أيقونة علم الإجتماع، كما أراه، طرح ما يمكن أن نسميه مشروعا فكريا سوسيولوجيا وأكاديميا، الأكثر شمولاً وتدقيقا منذ تالكوت بارسونز، لقد قدم بإتقان نظرياته الاجتماعية على مدى سنين طويلة من حياته المليئة بالأحداث، وعكست هذه النظريات التزامه الدائم نحو الفكر الملتزم، وبناء المعرفة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. يرى زميله ريمون آرون أن بيير بورديو كان استثناء لقوانين انتقال رأس المال الثقافي التي صاغها في كتاباته المبكرة، وعايش متغيرات كثيرة عرفها المجتمع الكوني.
لقد كان فعلا شاهدا على بؤس العالم، وهو الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة، وكان من كبار مناهضي العولمة. ناضل من أجل معرفة ملتزمة، فالتزم بمبادئه حتى مات عليها، ففي مقالة نشرتها لوموند ديبلوماتيك فبراير 2002 أيام قليلة بعد وفاته، يقول فيها أنه “ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة”. وهو الذي كان حاضرا وبقوة في المشهد السياسي، وخصوصا قبل ثورة ماي 68، ينتسب المفكر إلى أولئك الأكاديميين الذين لا يفصلون بين الالتزام الفكري والالتزام السياسي؛ أولئك الذين لا يتحملون خمول المثقفين وبروجهم العاجية، كان من أنصار النضال الفكري المؤثر في السياسة والمجتمع فقد كان قريبا من الناس والواقع المعاش.
سوسيولوجيا بورديو، علم لا يختزل البحث فيه عن سلطة واحدة، فالسلطة سلط متعددة مرتبطة ﺑﺎلفضاء الذي تمارس فيه، فعلم الاجتماع حين يطرح سؤال الكينونة فهو رهين البحث عن هذه الأشكال المتعددة للسلط، أي دراسة هذه الأشكال وهي في فضائها الاجتماعي الخاص، مما يعني قبول دراسة الشروط الاجتماعية لإمكانية ممارسة السلطة التي تؤدي إلى الهيمنة. في رأي بورديو، السلطة المؤدية إلى الهيمنة الاجتماعية ليست مختزلة دائما في العنف، بل لها آليات وشروط ينبغي البحث عنها وتحليل مشروعيتها.
الهيمنة في أشكالها العامة، حسب بورديو غالبا ما تكون خفية وغير مرئية، لذلك سعى دوما لتعرية أسس شرعيتها وتشريح آلياﺗﻬا حتى تُفهم جيدا ثم تُلغى ولن تعود حتمية. فالهيمنة عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة المؤدية في النهاية إلى تشكيل نسيج كثيف يخترق كل المؤسسات والقطاعات، وأيضا السلوكات والعلاقات من دون أن تسكنها. إنها تتحرك باستمرار وغير قارة، مما دفع بورديو إلى البحث عن مفاهيم جديدة لوصف الهيمنة الاجتماعية ما ظهر منها وما بطن.
ومن بين المفاهيم التي اشتغل عليها المفكر السوسيولوجي، مفهوم الحقل، إنه الأداة التفسيرية الوسيطة التي تربط مقاربة الممارسة الاجتماعية بفهم البناء الكلي للمجتمع، والتي تتيح لنا فهم العلاقات والتفاعلات التي تتم في الحياة الاجتماعية العامة.
الهابيتوس أو التطبُّع، النواة الرئيسية في الفكر النظري لبورديو، إنه نسق الاستعدادات الدائمة والقابلة للنقل، التي يكتسبها الفاعل الاجتماعي، من خلال وجوده في حقل اجتماعي بالواقع الاجتماعي حيث يعيش.
كما تطرق مشروع بورديو أيضا لفكرة رأس المال، لكنه تجاوز المفهوم الماركسي الذي يحصره في الاقتصاد فقط، بل يرى بورديو أن هناك عدة أشكال لرأس المال، كالرأس المال الثقافي والاجتماعي والرأس مال الرمزي ، وهي صور تعكس تلك الرؤية لرأس المال ذات تفسيرات متعدد الأبعاد للظواهر الاجتماعية. فبيير بورديو يرى أن العالم الاجتماعي يمكن إدراكه كفضاء متعدد الأبعاد وان الرأس المال الاقتصادي يرتبط مباشرة بالثروة.
انتقد بورديو تغاضي الماركسية عن العوامل غير الاقتصادية، إذ أن الفاعلين المسيطرين، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية أو الرمزية، فللعنف الرمزي دور أساسي في فكره. كان بورديو يردد دوما أن عالم الاجتماع يجب أن لا يثق في علم الاجتماع ، بمعنى الإغراء لتحويل القوانين أو التنظيمات التاريخية إلى قوانين أبدية. رحل بورديو في شتاء 2002، وترك إرثا فكريا زاخرا لم يسلم من انتقادات عنيفة ككل مفكر حر مثير للجدل، خلافات حول وجاهته العلمية وأساليبَ بحثه والنتائج التي أفضى إليها، ولاسيما نظريته الشاملة عن المجتمع المحكوم بإعادة إنتاج النظام الاجتماعي.