أظن أن عدم الإدراك الجيد أو عدم استيعاب المعرفة الحقة هو الجوهر الأساس للازمة الحالية.
لم تعد تنبؤات المستقبل تطمئننا كما كان سالفا، حين كان تطور الطب والعلم واكتشاف العلاجات، يوحي بأن القادم أفضل، اليوم التكنولوجيا والأسلحة الفتاكة تهدد مستقبل البشرية أكثر من أي وقت مضى. السباق نحو التسلح وامتلاك الرؤوس النووية صار أولوية قصوى في مجتمعات تستعد يوميا للحرب، كل التنبؤات كانت تشير أننا سنسيطر على الطبيعة ونروضها، صحيح، لكن الإنسان اليوم بحاجة لمن يروضه، لان الكون يتجه نحو قانون الغاب والفوضى العارمة.
في برقية للألمان الى نظرائهم النمساويين إبان الحرب العالمية الثانية, يقول الألمان للنمساويين في برقيتهم: ” بالنسبة لنا، فان الوضع على الجبهة جاد ولكن غير كارثي” ويجيب النمساويين :”بالنسبة لنا فالوضع كارثي ولكن غير جاد”. إنها الفوضى إن لم نقل الكارثة.
الحضارة الغربية تتلاشى وفكرة المستقبل في أزمة، والغرب لا يمكنه أن يعيش دون أوهام المستقبل، دون إعطاء وعود للأجيال القادمة بغد أفضل ومستقبل واعد. لذا فالغرب مهووس بفكرة المستقبل، نمط عيشه مؤسس على الحدس المستقبلي ولا يمكن تصور وجود للغرب خارج هذا الإطار الذي يعتبر سمة وجوده.
إنها الأزمة الحالية، غياب العمل السياسي الرشيد وفكرة السيطرة المطلقة للمركز، سخط المواطن وكذا الشعوب المستضعفة، إنها أيضا توتر المفاهيم الهوياتية : هذه بعض أوصاف المرحلة التي نعيش بعض فصولها.
فالرأسمالية الحالية برهنت على فشلها ووحشيتها إن لم نقل إجراميتها. والاشتراكية تحتضر إن لم نقل ماتت، وبدلك فالديمقراطية كنمط للتعايش الكريم في تراجع مستمر والفوارق الاجتماعية في أوج صراعها وفرص الحوار المجتمعي بين كل الأطياف بدون إقصاء أي فرد أو جماعة شبه منعدمة. فهي لم تعد الضامن لحرية الإنسان بقدر ما أصبحت صور من صور الواقع السياسي الخجول الضيق وإطار لكبت طموح الافراد والجماعات المستضعفة وبالمقابل تحقيق رغبة ونزوات وأرباح الكبار، قاسمهم المشترك المنفعة والمصلحة المحدودة. لتصاب فكرة مصلحة الجماعة بالأزمة، ويطلق العنان للفردانية كسمة للعصر الحالي.
كما ان النقاش المطول حول التعدد الثقافي والاختلافات العرقية يطمس جوهر إشكالية أزمة المجتمع التي هي بالأساس المصلحة الجماعية او بمعنى اخر القضايا الاجتماعية الضرورية والأساسية للحياة الكريمة. الآن نتحدث عن هذا الاختلاف والتعدد أكثر مما نتحدث عن السبب الرئيسي الذي دفعنا الى التفكير بهدا المنطق اي الحلول الغير العادلة للإشكاليات المجتمعية إنها اللاعدالة اجتماعية، هي التي دفعت الأفراد والجماعات للبحث في جدالات الاختلاف الثقافي والديني والهوياتي والعرقي.
انه ظلم الرأسمالية، وبشع الغرب، انه مأزق الواقع الغربي المعاصر الذي طالما آمن بالتعالي وأبدية الرقي الحضاري، وأسس كل منهجيات الحياة اليومية على دين المال كبديل للاديان السماوية. انها الحقيقة المأساوية للازمة المالية، أزمة وعود وأوهام العيش الكريم بالقروض والائتمان. إلا انه لا احد بمقدوره الفرار من الوضع العالمي الجديد الذي ترسمه إملاءات الأزمة وفرص البحث عن البديل. كما ان الغرب يصعب عليه التصديق بان الأزمة الحالية هي ركام إشكالات مجتمعية وتصفيات عرقية وعنصرية لجماعات وشعوب لمصالح فئة اجتماعية وسياسية معينة، والعمل على تهميش الأخر من اجل تبعية عمياء، متناسين أن لكل شيء بداية و نهاية .
تعجرف منظريهم وتسليط الضوء على إخضاع الآخرين جعلهم يتوهمون أنهم في مأمن من كل الآفات والمخاطر. فالحضارة الغربية تدفع ثمن لاعدالتها، ثمن ماضي استعماري مرير. والجميل ان التاريخ لا ينسى وعجلة الزمان لا تتوقف عن الدوران.
فالعالم بحاجة إلى لقاء دائم، وتوسيع فرص التعايش وفرص العدالة الاجتماعية. فالأمر لا يتعلق بعالم مثالي او جمهورية افلاطون بقدر ما هم افق رحب لكل الاختلافات وتجانس الثقافات من اجل عالم انساني يصعب تحديد معالمه الآن.