صريرُ الرّوحِ
قصة قصيرة :الأديبة التونسية ابتسام الخميري
-بلى، نعم، كلّ سنة و أنتَ بخيرٍ، العاقبة لمائة سنة.
ردّتْ باقتضابٍ ثمّ وضعت السمّاعةَ جانبا و تصّاعدتْ منها زفرات لا متناهية.
إذن اليوم مولده، لم تكن تعرف التّاريخ بالتحديد لكنّها تذكر الشّهر و أنّ مولده في أيّامه الأولى، قد يكون يوم اثنين أو ثلاثة من الشّهر، همست في أغوارها: “سأنتظر مكالمة منه تعلمني بالموعد، كما كلّ سنة.”
فجأة انتصبت أمامها الأسئلة مصطفّة مبعثرة كلمح البصر:
-لمَ هاتفني الآن و السّاعة تقترب من منتصف اللّيل؟ لمَ يذكرني الآن؟ أين كان كلّ هذه الفترة؟
كان وحده يربكها و يلعثمها… وحده يحملها إلى عالم لا تعرفه… ترفل فيه دون هوادة. تبحر بلا دراية في أيّ اتّجاه تسير؟؟ لكنّه يحملها إلى هناك حيث يطوّق ضياعها و يوقظ ذاكرتها من غفوتها المبهمة فترسم أمامها كلّ المشاهد و الصّور فتصدح أذناها أصوات مختلفة مجهولة…
فجأة صرخت أعماقها:
-كلّا، يكفي ضياعا.
كانت صديقة لها تجلس حذوها على الأريكة في قاعة الجلوس قدمت لتشاركها سهرتها و تؤنس وحدتها المُمِضَّةَ. لاحظتْ ارتباكها و شرودها منذ أقفلتْ السمّاعة فسألتها بفضول:
-من كان؟
و لأنّها لم تجبها أحسّتْ بالحرجِ و لم تردْ أن تتدخّل في شؤونها الخاصّة و هي الكتومة على الدّوام. ارتبكت ثمّ أردفتْ:
-أَ لمْ يعجبكِ الفلم بالشّاشة؟ هل نغيّره؟
لكنّها ردّتْ فورا:
-لا يمكنني تغييره، لا أستطيع، ما من أحد استطاع محوه منّي. كأنّه الأكسجين الّذي أتنفّس، كلّ الطّرقات و المسالك تذكّرني به. كلّ المواقف تذكّرني به.
-إذن؟ أ ليس الزّمن كفيلا بمساعدتنا على النّسيان؟
-مطلقا. لم يساعدني الزّمن على نسيانه و لو لحظة كما لم أستطع محو ذلك المشهد من ذاكرتي.
عندئذ صمتت، تذكّرت بأنّها لا تقحم أصدقائها في تفاصيل حياتها الخاصّة. وجّهتْ نظرها نحو الشّاشة… لكنّها لم تكن تر سوى ذلك المشهد جاثما أمامها:
يومها، و على غير العادة، حيث كانت تلتقيه بسرعة فائقة تتركه أمام منزله و تمضي في طريقها… يومها عظُم الشّوق بداخلها. كابدتْ. تلوّتْ. ارتسمتْ أمامها ضحكات أصدقائها و سعادتهم إلّا هي… نداء صاخب جرفها لأن تركض إليه في ذلك المنزل… رأته يئنّ وحيدا ينتظرها شوقا لا متناهيا…
داستْ على مكابح سيّارتها و سارت تلـتهم الطّرقات التهاما. سارت إليه غفلة دون أن تعلمه كما اعتادتْ. أرادتْ أن تفاجأه. اندفعتْ إليه و شعور غامض يسكنها منذ فترة. كانت تجهل مأتاه لكنّها جرت إليه. طرقتِ الباب بكلّ ما أوتيت من قوّةٍ. كانت تحسبُ أنّه ليس بالمكان. لكنّها جاءتْ. ها هو يخرج من المنزل. حقّا لم تكن تتوقّع رؤياهُ لكنّه خرج. شعور غريب انتابها. كمن ألقى بها إلى قاع البحار و المحيطات…
للبحر هديل ممتع. للشّمس أشعّة مبهرة و للقمر ضياء منفرد… و لها حزن يهزّ الأكوان و يوقظ البراكين من سباتها… كعمر الوليد كان قد عمّرها الحلم الجميل… و مع لفحات الهجير بهُت لونه… نزعها يكابد و هي تراه على عتمة الغسق يتلاشى. يتفتّتُ. رأته مرايا منكسرة بلا اتّجاهات بائنة. رأته جثّة هامدة بلا روح. “تهشّمت إذن الأحلام على التّوّ.” غمغمتْ أغوارها و هالة من الضّحكات تلبّستها. لم تستطع أن تكفّ عن الضّحك أمامه لكنّه تلعثم. ارتبك. غاص في عرق الخيانة و دار حدّ المتاهة. بحث عن كلمات ليسكّنها و يهدّأ من الهستيريا الّتي انتابتها. لم ينجح. ظلّت مع موجة الضّحك و الدّموع تغرق فؤادها الصّغير.
-الفيلم انتهى، ما رأيكِ لو ننامُ الآن؟
أعادها سؤال صديقتها إلى المكان الّذي توجد فيه و قد تركته هناك. يتضوّر شوقا لرؤيتها حتّى يقدّم لها أعذارا و تسامحه:
-أرجوكِ أنتِ أروعَ و أجمل ما بحياتي لا تتركيني.
لكنّه ذبحها و أدماها… ظلّت أيّاما و شهورا تعوي و تئنّ بين الشّوارع و الطّرقات و لا أحد يسمعها… وحدها الطّريق الطّويلة كانت تشهد ضعفها و أنينها…
سنوات مرّت و هي ما تزال صدرا يسمعه و يرأف لحاله… سنوات مرّت و هي ما تزال تنزف جراحا و تقول:
-سوف أتركه حال أتسلّح بالقوّة و العظمة. لن أسامحه عن خيانته. لن أغفر له.
و رغم ذلك ترفع يديها المرتعشتين و تمسح له دموعه المنسكبة كلّما ركض إليها…
مع ندى الفجر الجميل تستكين مشاعرها و تتحوّل… تصير بلاطا. بساطا خامة فلاة… مع نسمات الصّبح تتصابى. ترقص حول ذكراه و ترحّل عنها صورة يتيمة له. كان يركع تحت قدميها. كان يتوسّل رأفتها به.
-لن أستطيع الحياة دونكِ، صدّقيني.
و مع السّنوات العابرة تأكّدت أنّه لا يستطيع فراقها. و لا هي تستطيع. لكنها لا تستطيع نسيان خيانته…
تعود لهدأتها قرب صديقتها:
-ما بك صامتة واجمة؟
-لا، لا شيء مهمّ، لا شيء له معنى.