لكن لماذا هذا الهوس كله اليوم من بعض الفيروسات، إنها ليست أشد فتكا من السرطان الذي يودي بحياة أكثر من ثمانية ملايين نسمة سنويا، وآلاف من الناس تموت يوميا بسبب الأمراض أو مخاطر أخرى كالمجاعة والحروب وحرب الطرقات ومهاجري عرض البحار.
الوضع الذي أحدثته، وانكماش الدول داخل حدودها، إن لم نقل إغلاقها وأحيانا تسييج مدن بأكملها وحصار مناطق أخرى، هذا المنطق ينسف محددين من محددات المجتمع المعاصر، الأول التبادل الحر في المجتمعات المعلومة، فمعظم البضائع الصينية تنتشر يوميا بكل الأسواق العالمية والبحث عن المزيد لتلبية شهية التنين الصيني، هي اليوم مجبرة على لعب دور الحارس الطبي على حد تعبير السيوسيولوجي فريديريك كيك. والمحدد الثاني هو أمني يتمحور حول ضبط الدينامية السكانية الجماعية ويكرس نمطا جديدا من الخطر العالمي والذي حوله ستتمحور الإستراتيجيات الأمنية الدولية الجديدة.
فالغرب الحديث كما يرى فوكو انتقل من نموذج السلطة العقابية العنيفة إلى نمط من السلطة الحيوية التي تتركز على ضبط حركة ورغبات السكان، فما جرى على الصعيد العالمي هو تحول الظاهرة البيولوجية إلى رهان سياسي واستراتيجي عام، كما أن آليات الضبط والرقابة لم تعد قادرة على حماية وتأمين الناس من هذا الخطر المتنقل بسرعة عن طريق الإنسان أو الحيوان.
يذهب عالم الإجتماع أنتوني غدنز: “أن للمرض بعدين أساسين، أحدهما شخصي، والآخر اجتماعي، إن إصابة أحدنا بالمرض لا تلحق به مجرد الإحساس الفردي بالألم والخوف والنكد والحيرة والإرباك، بل إنها تؤثر في الآخرين حوله. كما أن الناس الذين حولنا أو نتعامل معهم يواجهون حالتنا المرضية بالتعاطف أو بمد يد المساعدة أو تقديم الرعاية والمساندة “.
كما أن هذه الظاهرة الفيروسية عرت السياسات الترقيعية والنظم الصحية وطبيعة تفكير، ووعي الأفراد والجماعات في شتى أنحاء المعمور، وراحت كل جماعة من الناس تعمل على صياغة نظامها الطبي بما يتفق وثقافتها ومعتقداتها وتركيبها الإجتماعي ورؤيتها للعالم حسب تعبير جان شارل سورينا.
فيما تتسابق المختبرات الطبية والباحثين في الميدان من أجل إيجاد دواء ولقاح للفيروس يبرز دور علماء الإجتماع أيضا في البحث وإبراز العلاقة التفاعلية بين المرض أو الظاهرة الفيروسية والمجتمع والمؤسسات الطبية، لان السوسيولوجي كما يرى بارسونز هو ذلك الذي يدرس الصلة بين المجتمع والمرض من حيث طبيعته وأسبابه وآثاره وكيفية معالجته وصلته بالمجتمع الذي يوجد فيه ويتطور في ظروفه ومعطياته.
من المعروف في علم اجتماع الصحة وتاريخ الأمراض، في العصر الحديث، أن البشرية انتقلت من الأمراض الجماعية المعدية إلى الأمراض الفردية المزمنة يعزى هذا التحول إلى عامل فعالية الدولة في احتواء الأوبئة. فهل تدحض الظاهرة الحالية هذه المسلمة، الآن يجب الإنكباب على تحليل وتمحيص الواقع المجتمعي بناء على المستجدات السلوكية الجمعية والمعتقدات اتجاه الظاهرة الفيروسية والصحة عموما في إطار نظام مجتمعي جديد يهيمن فيه نظام الصحة خوفا من الأمراض المعدية حيث أصبح المرض محدد وجودي للإنسان.
هل يمكننا الحديث عن مجتمع ما بعد الظاهرة الفيروسية، أي تغيير في أنماط التفكير والتعامل والتسيير، وإعادة ربط الثقة بين الأفراد ومؤسسات الدولة وإنتاج فكر ووعي آخر يسمح بميلاد مجتمع إنساني جديد بعقليات وتصورات وطموحات جديدة و سياسات جديدة لتدبير الشأن العام من أجل غد أفضل بإذن الله.