من صميم الفكر الأخلاقي، ومن طابعه، أنه لا يتنازل أبداً ليقبل بالمعطى، فالعالم الأخلاقي ليس عالماً معطى، جاهزاً، وإنما هو دائما في طور التكوّن، وقيد الانجاز دائماً. يقول جوته: “العيش في العالم المثالي، معناه أن تعامل المستحيل وكأنه ممكن”.
والحقيقة أن رواد العلم والفكر عبر تاريخ كل الحضارات القديمة والحديثة قد تعاملوا مع المستحيل، كأنه ممكن. وكلمة المستحيل يجب أن تفهم بمعنى المستحيل وجوده الآن، وليس المستحيل لذاته، وإلا كان التعامل معه نوعاً من العبث أو الجنون. وعظمة هؤلاء الرواد والمصلحين والثائرين أنهم فسحوا مجالاً للممكن، في مقاومته التسليم السلبي للراهن. لأن هذا الفكر المأمول لتجاوز هذا الواقع، هو الذي يتغلب على القصور الذاتي المألوف لدى الإنسان، ويمنحه قدرة جديدة، وطاقة حيوية تساعده على أن يعيد تشكيل العالم الإنساني من جديد، ويواصل المحاولات الدائمة والمتكررة على الدوام.
فالممكن في مجال الأخلاق كما في مجال الاجتماع والسياسة، ليس صورة فوتوغرافية لما يمكن أن يحدث في المستقبل، وبكل التفاصيل الجزئية، إنما هو تطلع إلى تشكيل هذا المستقبل، وفق منهاج ممكن، ورؤية تحمل مبررات ومسوغات التحقق. بحيث يكون هذا المنهاج، وهذه الرؤية هادفة وقابلة للسير على طريق التطور. من المسلمات ومن حق الإنسان، بل ومن واجبه الطبيعي، أن يتجاوز الواقع المعطى له، إذا لم يكن هذا الواقع يتناسب وتطلعاته وقيمه، محاولا أن يغير هذا الواقع بما يتناسب مع رؤيته وطموحه.
وهكذا بدا واضحاً أن البحث في مفهوم الممكن لم يكن رغبة عابرة ونظرية سطحية، وإنما الهدف منه تقديم المهاد الفكري، والصياغة المعرفية، لوضع مشروع وطني هادف ومتكامل، للخروج من المأزق القائم، الذي تتردى فيه أوضاع الوطن والمواطنين، ولتقديم الحلول الممكنة والمتاحة، للإشكالات المتشابكة التي تواجه البلاد والمنطقة في ظل أوضاع عالمية متقلبة، وتقدم تكنولوجي واقتصادي للغرب وغطرسة امبريالية متوحشة.
وإذا ما لم نحاول على الأقل قراءة الواقع وتحليله وفق المعطيات المتاحة، ومحاولة فهم الأسباب والمسببات التي أدت إلى حدوث الوضع الراهن، فإننا نترك الأمور لمطلق الارتجال والصدف، وانتظار الغد الغير المقروء جيدا اليوم. وتكون دروس الماضي ذكرى لا غير، أو ملفات في رفوف لا تفيد في شيء، عدم قراءة دروس البارحة واليوم هو إهدار للطاقات الإنسانية، التي أثبتت قدرتها على استشراف المستقبل، والاستعداد للتكيف معه، باقتراح الممكنات المناسبة.
وعند وضع المشروع الوطني، لابد من استقراء الواقع المعاش بكل حيثياته وتجلياته، وتشخيص الأسباب التي أنتجت المأزق الذي يحول دون التقدم والنماء الفكري، السياسي، الاجتماعي والاقتصادي. ويحرم المواطن من العيش الكريم لذلك لابد من العمل على استعادة المبادرة والثقة، وتحقيق الحد الأدنى من التضامن والتفاهم من أجل المصلحة العليا بعيدا عن المصالح الضيقة والفساد. ومهمة وضع هذا المشروع-الممكن من أهم التحديات التي يواجهها المجتمع المغربي المعاصر، إذا ما أردنا أن نبدأ مرحلة جديدة من العمل الوطني الجاد ودفاعا أيضا عن المكتسبات التي تحققت لحد الآن. وما ذكرناه عن الممكن الأخلاقي يمكن أن يقال عن الممكن بصورة عامة، وما دام الإنسان- إنسانا- فسيبقى الممكن جزءا من طبيعة فهمه وإدراكه.