كتب الأديب والمثقف التشيكي يوليوس فوتشيك، الذي كان صحافيا مناضلا من أجل قضايا مجتمعه في زمن الاستبداد النازي، قبل موته :
“ويقترب دوري أيضا من نهايته، لن أكتب هذه النهاية، لأنني لا زلت أجهلها.
لم يعد دورا من الأدوار .. إنها الحياة.
وفي الحياة لا وجود للمتفرجين.
يرفع الستار.
أيها الناس لقد أحببتكم.”
لم تكن يوما الثورة مقرونة فقط بحمل السلاح، ربما كانت كذلك حين تطلب الأمر حمله دفاعا عن الأرض ضد المحتل الغاصب أو الاستعمار الغاشم. إلا أن العالم عرف ثورات فكرية سلمية هادئة أدت إلى تغيير الكثير من الأفكار والمعتقدات وغيرت أيضا الكثير من مناحي الحياة وواقع الناس.
يتطلب الأمر بحثا سوسيولوجيا تاريخيا عن موضوع المثقفين والثورات، وكيف تحول المثقف من مناضل مفكر إلى مثقف خبير ومثقف تقني منغلق في حدود اختصاصه غير مكترث بما يقع حوله، وهو سبب كافي لاستخدام مصطلح أنتلجنسيا لوصف فئة المتعلمين والخبراء العاملين في حقل التفكير كمهنة (سواء كانوا مدرسين، صحافيين، مهندسين …) بدون أن يكونوا مفكرين مبدعين ومهتمين بشؤون المجتمع ومشاكل المواطن والوطن. في الحياة لا مكان للمتفرجين ولا قيمة لهم، لأن الواقع والمجتمع ينتظر منهم إعلاء قيمة الإنسانية والعمل على تحديثها وصيانتها، وعدم المتاجرة بثقافتهم وبفكرهم والانحراف عن المسار القيمي والأخلاقي المفروض أن يتبعوه وأن يحترموه، عوض التضليل والأكاذيب التي يمارسونها خدمة لمصالحهم الضيقة والشخصية.
فهل تغير الزمن؟ أم انتهى زمان الثورات؟ أم ولى عهد الثوار ؟ وهل كل ما يحصل من فوضى عارمة هنا وهناك مجرد تحولات وانتفاضات اجتماعية مبرمجة لا علاقة لها بالشعوب، بل فقط تكتيكات جيوسياسية للدول العظمى في ظل نظام عالمي جديد مهيمن على مركز القرار. لقد كان لسقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة الأثر الكبير على العديد من القضايا الدولية، فقد كان بمثابة نهاية المنظومة الاشتراكية وقوى التقدم وسيطرة القطب الواحد، وتحول الصراع إلى صراع حضارات، ثقافات، اقتصادات وربما أديان.
كما انه لم يعد الصراع واضحا بما يكفي في وقت تعددت التيارات السياسية والاقتصادية وتنحت الإيديولوجيا جانبا لتفسح المجال لشعارات جديدة كالمصالح والواقعية، فهل انتهى زمن الإيديولوجيا أيضا أم فقط غياب اضطراري من ساحة الفكر المعاصر؟ وغاب معه الفكر والمفكر المتزن والثوري الحامل لقضايا وهموم وطنه ومواطنيه. إلا أن التغيرات السياسية التي حصلت بعد سقوط جدار برلين لم تكن نتيجة حتمية له، بل كانت أيضا نتيجة لصيرورة تاريخية لنضج الأفكار وتطور الشعوب.
سقوط جدار برلين ليس نهاية التاريخ وليس بدايته، بل مرحلة رسمتها ظروف وشروط موضوعية أدت إلى حدوثه. فتطور المجتمعات والأفكار لا ينتهي ولا يتوقف، كما أن صراع الطبيعة وتناقضات المجتمعات لن تكون ثابتة، وتواصل مسيرتها وتحالفاتها بشكل تفسره المحددات التاريخية والتحالفات الإستراتيجية.
وفي هذه المر حلة بذات يبرز دور المثقف المناضل الحقيقي الذي يقوم بتفكيك إشكالات المجتمع والقضايا العالقة ليجنب المجتمع الكثير من الصراعات، ويكون أيضا الشمعة التي تضيء طريق السياسة والسياسيين من أجل بناء المجتمع والدولة المنشودة، وحبا في تكريس قيم المواطنة واحترام الناس.