“لن تجدي سياسة الانصياع وراء الآخر ونكران الذات في شيء، ولا سياسة الصم البكم وغمر الرأس بالرمل في شيء”…”نملك ماضيا غنيا وحاضرا بئيسا وبإمكاننا صنع مستقبل زاهر”.
كانت الحقبة الاستعمارية قاسية جدا، فكتب ميلاد مجتمع إشكالي، بدأت تبرز فيه الشخصية (في العالم العربي) كصيغة مفتوحة على كل الأشكال والتيارات والإيديولوجيات، وكانت النكبة واحتلال الارض وهزيمة حزيران وتضاؤل فرص الوحدة، كلها انتكاسات لاحقت مشاهد السقوط المفجع وانهيار بعض المسلمات ويقينياتها، عبر أشلاء الأزمنة المتداخلة والمكتسِبة لمعانيها في البحث عن فضاءات جديدة للتعبير والوجود الذاتي. فأصبحت الثقافة وهي إحدى مكونات الذات مستهدفة من سياسات عدائية او وطنيين انفسهم باسم العلم وباسم ما يسمى تقدما تكنولوجيا وانبهارا بالنموذج الغربي.
حملت حقبة ما بعد الاستعمار بعض مؤشرات التجاوز، وأُريد لها ان تكون مرحلة القطيعة مع ماضي الانحطاط، فبدت الهوية وكأنها تبحث لها عن مكان آمن يقيها شر الرياح الخارجية العاتية. واقترنت الذات بالانكسارات المتتالية فكانت الإنتاجات الفكرية والرؤى المطروحة انذاك تضرب في اعماق الذات للفرد والجماعة وتعري حالات القمع والقهر والخوف والسلطة والوصاية لتظهر واقعا مترديا اريد له الاستمرار. بالنسبة للبعض كان عهد الانحطاط قد ولى وصاروا يؤمنون بمرحلة تاريخية جديدة والبعض الاخر كان يرى ان الواقع ثابت والأمور تمشي بشكل دائري.
بين هؤلاء وأولئك كانت الذات الفردية أو الجماعية تخضع لموازين القوى تارة يسارية وتارة قومية وتارة….. فاغتربت عن الواقع وعن التربة التي نشأت فيها، فكانت ضحية لفساد سياسي واقتصادي واجتماعي مهد الطريق لانحلال اخلاقي وفساد القيم الانسانية وانحطاط الكرامة. عبر نجيب محفوظ عن هذه الشخصية في رواياته العديدة في زمن ساد فيه الفساد وظهرت الزبونية وامتزج المدنس بالمقدس في الشخصية العربية الكارتونية المركبة.
يشير أريك فروم في كتابه خوف الحرية إلى مخاطر فقدان الذات وإحلال ذات أخرى مكانها، يقول: “إن فقدان الذات وإحلال ذات مكانها يدفع الفرد إلى حالة من انعدام الاطمئنان، فالشك يلاحقه، إذ أنه أساساَ مرآة لتوقعات الآخرين منه بينما هو فقد هويته إلى حد كبير، وفي سبيل تجاوز الهلع الناتج عن خسارة الهوية هذه نراه مضطراَ للبحث عن هوية ما من خلال قبول واعتراف مستمرين به من قبل الآخرين.”
الثقافة في مفهومها العام حصيلة إنتاج شعب أو امة، إنها المخيلة الجماعية للأفراد، إنها حصن التمييز عن الاخر. وتبقى الثقافة احد العوامل التي تحفظ لجماعة او امة ما انسجامها وتماسكها من الانحلال والتفتت، فليست هناك ثقافة متخلفة وأخرى متقدمة بل هناك اختلاف ثقافي، ولكل ثقافة خصوصياتها ونقط قوة تنفرد بها عن الأخرى.
الكل يعي جبروت المشروع الغربي وما يشكله من خطر دائم على الثقافات الاخرى حيث يحاول نزع كل مقوماتها باسم العولمة ونشر التقدم والحضارة، وفي الان نفسه يعي ما تمثله الذاتية الثقافية للأمم من خطر على مشروعه والتي تقف سدا منيعا لمحاولات السيطرة. وحين ينظر الى الثقافة فقط من خلال عنصري العلم والتقدم التكنولوجي تفقد الثقافة شموليتها التاريخية وذاكرتها الجماعية لأمة ما.
في الوقت نفسه، الحرص على الموروث الثقافي لا يعني بأي شكل من الأشكال الانغلاق والرجوع إلى الوراء، بل على الأمة لإغناء معارفها الانفتاح على الثقافات والحضارات الاخرى مستمدة وعيها من الجذور والموروث الثقافي الخاص بها. فالوعي الثقافي والمعرفي هو بالأساس وعي بالخصوصية الثقافية الجماعية. والحرص على الخصوصية الثقافية هو الضامن الحصين للهوية القومية، والتي يتداخل فيها الديني بالاجتماعي بالاقتصادي وبالسياسي. وفي حالة فقدان الهوية الذاتية نرى الامة او الجماعة تهرول لتقمص ذوات اخرى لتكون مقبولة من طرف الْاخرين وللإحساس بنوع من الإطمئنان وإبعاد شيئا ما الخوف والشك الذي خلفه فقدان الذات.