شهد العالم منذ الحرب العالمية الثانية تغيرات عدة، بين عمليات التحرر الوطني من جهة وإعادة السيطرة على العالم بطرق أخرى من جهة أخرى، بين الحرب الباردة وسقوط جدار برلين ونزاعات مسلحة هنا وهناك وحروب بالوكالة، كلها أحداث غيرت الكثير من المشهد العام للخريطة السياسية العالمية وحددت أنواع جديدة من التحالفات وخرائط مبتكرة لإعادة إنتاج مفاهيم جديدة للسيطرة.
إلا أن عملية تغير العالم لا تحدث بشكل آلي بحث كتطور القوى الإنتاجية والثورات الصناعية، كما يتصور العديد من المحللين، بل إن التغير عملية جد معقدة تلعب فيها السياسة دورا أساسيا، يمتد مجاله من السياسة الإقليمية إلى العالمية إلى لوبيات ضاغطة، إلى الدين والعرق وصراع الحضارات. ودراسة صيرورة عملية التغير تقتضي بالأساس دراسة القوى الكامنة وراء هذا التغير، وهي بالضرورة قوى تعمل بشكل متضاد، أي منها من يعمل على نشر الحرية والقضاء على التبعية، ومنها من يزال يعمل على إركاع الآخر وفرض الهيمنة المركزية.
مما يتطلب من جميع المهتمين بمكانيزمات التغير العالمي، والأشكال الجديدة للخريطة الجيوسياسية، أن يحللوا تشابك هذه الاتجاهات وفهم تعدد مسالكها وتباين سرعة تحولها وتأثيرها أيضا، الشيء الذي يتطلب الغوص في أعماق المحيطات من أجل فهم أدق لمجريات الأحداث وعدم التسرع في الحكم على الأشياء. الأمر الذي يمكننا من فهم عميق للمسارات التاريخية للأحداث السياسية والمجتمعية والاقتصادية، والوقوف على طريقة للعمل والتحرك في إطار النظام العالمي الجديد الذي يتشكل بسرعة كبيرة.
اليوم وبفضل موقعنا الاستراتيجي المهم، مطالبون كمغاربة وبامتدادنا المغاربي والعربي والإفريقي، أن نفكر في مشروعنا الحضاري الكبير انطلاقا من أرضنا وتربتنا وبسواعدنا لبناء أمة قادرة على إثبات ذاتها، والأكيد مكانتها بين الأمم التقدمية، وتأمين مسارها واستقلال قراراتها لتتموقع بقوة وسط الأمم التي تصنع الحدث وليس متفرجة وتابعة.
تفوق الأوربيون الأزلي أو الغربيون بصفة عامة لم يعد من المسلمات، فالقوى الصاعدة في الشرق الأقصى أو بأمريكا اللاتينية، تفند القاعدة. العالم يتغير وبسرعة كبيرة، ومن لا يواكبه هو من يترك للآخر فرصة الهيمنة عليه، فالشاة التي تتأخر عن القطيع تكون دوما من نصيب الذئب. صحيح تفوقت أوربا منذ أثينا ثم عصر النهضة إلى الثورات الفلاحية والصناعية وصولا للتحول التكنولوجي الكبير، الأمر الذي لا ينسينا أن الامة الإسلامية (عرب، أمازيغ وفرس) فرضوا سيطرتهم العلمية على العالم لمذة ثلاث قرون قبل تهوي حضارتهم ويتركوا زمام الأمور لأمم أخرى.
فلا وجود لنا إن لم نشارك في بناء الحضارة العالمية والمساهمة في عملية التغير الحاصلة، والإستفادة من الطاقات البشرية التي نملكها وقربنا من أوربا وأيضا موقعنا كبوابة لإفريقيا وكبلد آمن وسياحي بامتياز ومهد حضاري قديم.
فالعالم المعاصر يعيش العديد من الظواهر الاجتماعية الغير متجانسة، وجماعات مبعثرة ومجتمعات منهكة بالنزاعات حيث الصراعات تتصل ثم تتقطع على حدود هذه التكوينات السياسية والاجتماعية.
نحن ملزمون اليوم و قبل كل شيء، كفاعلين ومثقفين وإعلاميين وخبراء، إلى إعادة الاعتبار للعلوم الاجتماعية والابتعاد عن التنظير والفهم الكلاسيكي للأمور والأحداث والظواهر، والمضي قدما في فهم التحولات الاجتماعية المغربية، في سياقها الإقليمي والدولي حتى نتموقع بالشكل اللائق داخل الخريطة العالمية ونحظى بالمكانة التي نستحقها كمملكة لها تاريخ عريق ولها أكيد مستقبل مشرق ومشرِّف.