“براد اتاي” قاص ومؤرخ يكتب ما نسيه التاريخ عبر الزمن وكؤوس البلار تشهد !
بقلم: حنان الطيبي
يعرفه المغاربة بإسم “البراد”، مع أن إسمه عكس دوره، فهو يحمل في بطنه حرارة قصوى لدرجة الغليان، فكان من المنطق أن يعرف باسم “السخان” وليس البراد، لكن إسمه هذا في الحقيقة لم يأت عبثا، فهو مشتق من كلمة “برد”، والتي تعني باللهجة المغربية حك المعدن بقوة حتى صار لونه لامعا وبراقا، وللأمانة فيد الصانع المغربي جعلته “مبرودا” بشكل يخطف الأبصار، فحولت معدنه النحاسي من أصفر باهت إلى ذهبي براق ولامع يعكس وجه صابب الشاي كمرآة البلور. طقوس ومراحل تحضير الشاي المغربي: التعميرة والتشليلة والنقاصة والتشحيرة””وبالحديث عن براد الشاي المغربي، كان لابد من الحديث عن طريقة تجهيز الشاي الأخضر المغربي، إذ أن عملية تحضير الشاي لها طقوس متميزة ومراحل تراتبية، انطلاقا من تسخين الماء إلى غاية طريقة تقديم الشاي. عملية التلقيم:وتبدأ عملية تجهيز الشاي بوضع إناء خاص بتسخين الماء على النار، إلى حين غليانه، وفي انتظار غليان الماء يتم غسل قبضة من أوراق النعناع الأخضر ووضعها على جانب لاستقطارها حتى تنشف، ومن تمة توضع حفنة صغيرة من حبوب الشاي في “البراد”، ويتم سكب القليل من الماء لمغلي عليها للتقليل من حدة ولون الشاي، حتى لا يعطي الشاي لونا غامقا في النهاية، وتسمى هذه العملية “التشليلة”، وبعدها يتم تصفيته من الماء المسكوب عليه ويتم الاحتفاظ به في “البراد” ليضاف عليه السكر حسب الذوق،إذ يقال عن الشاي عموما في المغرب مقولة مشهورة مفادها (وما يشرب إلا لحلاوته)، وبعد هذه المرحلة يوضع الماء المغلي من جديد على الشاي والسكر إلى درجة الغليان، حتى يمتلئ البراد عن آخره وهذه المرحلة تسمى “التعميرة”، وعندما يبدأ الشاي في الغليان يتم إضافة أوراق النعناع بداخل البراد مع إنقاص مقدار كأس من الشاي خارج البراد ليغلي البراد بنعناعه وهذه المرحلة تسمى “النقاصة”، ومن تمة يتم إرجاع “النقاصة” إلى البراد (اي الكأس الذي تم سحبه من قبل)، وفي الأخير يغلى البراد حتى يقترب ان يفيض ما بداخله وتسمى هذه المرحلة “التشحيرة” ليكون بذلك الشاي جاهزا للتقديم، وكل المراحل التي تم ذكرها من تعميرة ونقاصة وتشحيرة تسمى عملية “تلقيم الشاي”.
الفرق بين النعناع والشيبة ونكهات أخرى:تستعمل أوراق النعناع في الشاي المغربي عادة في وقت الصيف، لأنه يساعد على التقليل من العطش ويعطي نكهة خاصة في الصيف، أما في وقت البرد فالشاي بالنعناع يكاد لا يستساغ، كما أنه يقصى من الساحة بشكل شبه منعدم إذا تحل محله “الشيبة”، ويشربها المغاربة مع الشاي في البرد فتدفئ حرارة الجسم بشكل سريع وتسهل الدورة الدموية وتساعد على التركيز، وهي معروفة في اللغة العربية بعدة أسماء منها الشوبلاء والدمسيسة، وشيح ابن سينا، والشيح الرومي، والشويلاء؛ وهناك أيضا تسميات أخرى كثيرة، وهي معروفة بمذاقها المر الذي يعطي مع حبوب الشاي والسكر نكهة متميزة وسائغة. كما ان هناك من يفضل شرب الشاي بأعشاب اخرى مثل المرمية واللويزة والعطرشة وكلها اعشاب منسمة، إلا ان النعناع والشيبة يبقيان هما الأكثر تناسقا واتفاقا والمتعارف عليه في مذاق الشاي المغربي الأخضر الأصيل. حكايات من الموروث الشعبي المغربي عن براد الشاي::لا تتم مناسبة من المناسبات في المجتمع المغربي إلا وحضر فيها براد الشاي وبقوة، مهما كانت الظروف فهو حاضر في الأعراس والخطوبات والحفلات والندوات والمحاضرات والمؤتمرات وحين عقد الاتفاقيات وفي البلاط والمواسم وحتى في المآتم ووقت الرخاء ووقت الأزمات… فبراد الشاي يحضر كل صغيرة وكبيرة، وهو في بيت الفقير كما في بيت الغني، يشهد ويشاهد كل شيء، وها هو ذا يحكي لنا مشادة كلامية مع منافسته القهوة في قصر أحد القادة أيام الاستعمار الفرنسي، ليثبث هويته المغربية ويفرض ذاته بكل اعتزاز بعد ان كانت القهوة دخيلة على الثقافة المغربية وارادت ان تنتزع منه السلطان والحكمة:البراد: “أنا أتاي النميلي، وخرجت من سبيلي، نتقام في البراد، وما يشربني غي القياد” القهوة: “راحت يامك يا وليدي، وراحو جدودك يا سبدي، بقيتي وحدك تصب وتشرب واليوم كلشي منك اهرب” البراد: “سيري يا المحروقة، المحروقة بالمعقول، مع الحمص والفول، باقي ليك غي البقول، وتصبحي بيصارية”القهوة: ” انا مولاتك القهوة، والكأس مني شهوة، يشربوني بالنخوة، ونزيد مع الحلوى، هذي البورجوازية”البراد: ” سيري يا الحمقا، جبتي ليا الخنقة انتي كحلة سودا وتحبي العبودية.. سالي الأحرار عليا ونحب الحرية”جدال دار بينهما كل يفتخر بشكله وقيمته، إلا انه يحمل ما يحمله من أبعاد تعدت الخصومة بين الشاي والقهوة إلى مناظرة تكاد تكون سياسية حول طرف يحاول إثبات ذاته وآخر يحاول طمس هويته لاستعباده بسبب الاستعمار. لبراد الشاي المغربي أيضا حكايات كثيرة ومشوقة، فتلت أحداثها كما فتلت حبات الشاي بكل إتقان، وحبكت خيوطها من الموروث الشعبي على مغزل غزل الخيال بالواقع، وفي نسج الحكايا كان في هذه القصة براد الشاي سببا في إعتاق سجين والعفو عنه من طرف سجانه.. فيحكى أن ساقيا كان يمتهن سقاية الماء للمارة ويزود أهالي القرية بما يحتاجونه نن المياه لاسيما أن الوادي الذي كان يسقي منه كان بعيدا جدا عن القرية.. ، وكان للساقي طفلة جميلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، واراد احد أعيان القرية، وقد بلغ عقده السادس، أن يتزوجها، فرفض الساقي ان يزوج ابنته له بحكم فارق السن الكبير الذي بينهما، فأقسم الخاطب ان ينتقم من الساقي، ثم مرت بضع أسابيع على ذلك ونسي الساقي ما حدث، وفي أحد الأيام خرج بائع الماء بقربته كالعادة، فوجد خصمه على أول الطريق، ليطلب منه شربة ماء، وقبل أن يمده بالقراب وقع الستيني على الأرض يتلوى مدعيا أن مغصا حل بأمعائه، واجتمع الناس حولها، فذهبا ليحكم شيخ القبيلة بينهما، وادعى الخصم أن الساقي قد سقاه من ماء آسن، فلما طلب زعيم القبيلة من الساقي ان يصب ما في قرابه، وجد أن القراب بالفعل به ماء ملوث، فطلب زعيم القبيلة من حراسه أن يمسكوا بالساقي إلى حين إحالته إلى السجن صباح اليوم الذي بعده او الحكم عليه بالجلد..
وعاد الستيني إلى داره فرحا ومعتقدا انه انتقم من الساقي وأن الفتاة ستصبح ملكه..رفي تلك الليلة طلب زعيم القبيلة من جاريته ان تعجن رغيفا وتحضر شايا لتقدمهما إلى الساقي السجين، فقامت الجارية بما طلبه منها سيدها لكنها لم تحضر الشاي بالشكل المطلوب، بل اكتفت بتدفئة الماء ووضعت به فقط قليل من النعناع، وعند تقديم الوجبة، تذوق الساقي الشاي فلم يستسغه، وعندها اكتفى بتتاول الرغيف فقط.. ،وهو كذلك، لاحظ زعيم القبيلة أن السجين يأكل الرغيف من دون شاي، فسأله عن السبب، وكان رد السجين أن الشاي حضر بماء دافئ فقط وليس مغليا كما يجب، كما أنه لم يأخذ حقه ولا وقته الكافي في الطبخ والتحضير، وانه شاي فاقد للمذاق، وعليه، فإن من قام بتحضيره قلل من شأني وانتقص من كرامتي عمدا، وأنا حفظت كرامتي بالاستغناء عنه، وعندها تذوق الحاكم الشاي وسرعان ما بصقه، ثم سأل الجارية كيف حضرت الشاي، فأجابت كما أجاب السجين، ولما سألها عن السبب قالت إنه مجرد سجين وغشاش، فلا يستحق شرب الشاي كما يشرب،..فقال له الحاكم: (يا هذا.. انت عرفت كيف تم تحضير الشاي لك ولم تكن شاهدا عليه.. فوالله من أدرك ما ادركت فقد أوتي من الحكمة والفطنة حظا كبيرا.. ومن كان بحكمتك لا ولن يبيع ماء آسنا للناس.. فأبشر فقد عفونا عنك.. وعد إلى دارك ونم قرير العين.. أما جارك فلنا معه غدا ما لنا معه”. وفي الشاي قصص كثيرة وحكايات جمة، وفي كل حكاية وقصة ألف بصمة وبصمة، تحكيها نقوش البراد المغربي وهو رافع رأسه بشموخ وهمة، وقد رصت الكؤوس المذهبة حوله كما ترص الجنود حول قائدها بكل دقة وإتقان ونظام، في انتظار سيادته ان يصب عليها شاي الحكمة والنغمة.