يمكن اعتبار هذا المقال تحذيرا من أجل الأجيال العربية، وحين أقول الأجيال العربية فأنا أقصد كل الأجيال المختلفة التي تنطوي تحت هذه الراية أو هذه البقعة الجغرافية التي تجمعنا، عرب وأمازيغ وأقباط وآخرون. تسارعت الأحداث بشكل مخيف في الوطن العربي، فاختلطت السياسة بالثقافة بالعرق بالحدود القطرية بالانكماش داخل الوطنية بكثير من المُغالاة، حتى أصبحنا نخاف من نشوء أزمة تعايش بين الإخوة والأشقاء في ظل أجواء مكهربة بالفهم الخاطئ أو عدم الفهم من الأصل.
فمشاكل أجيال اليوم، تجاوزت الخلاف السياسي بين الدول إلى خلافات أعمق، وُظفت فيها الهوية الوطنية بشكل مختزل إلى حدود قطرية، في حين كانت قبل سنوات أكثر اتساعا وأرحب أفقا، يتعلق بعضها بالهوية وبعضها الآخر بالإيديولوجيات البائدة البعض الآخر بالسذاجة، مشكلة الأجيال العربية اليوم أعمق بكثير مما نتصور. فهل أدت الخلافات السياسية إلى هذا الكم الهائل من الانطواء على الذات وعلى القطرية الضيقة؟ في وقت يعرف العالم انفتاحا كبيرا وتكتلات مهمة بعيدا عن العرق والدين والهوية.
هذا الاختزال وأقلمة الصراع الثنائي والمنطقاتي (محصور في مناطق معينة)، يخفي ورائه الهدف الأسمى وهو الهم العربي المشترك، أحيانا يبدو وكان الأجيال العربية تعيش حالة اغتراب، وانكسارات رمزية في مساحات وهمية ومتاهات تشبه إلى حد كبير حالة الانهزام والخوف من صنع المستقبل. فالمشاكل السياسية هي خلافات عابرة، تتغير بحالة الأنظمة السياسية ومزاجها، لكنها تؤرق وتُرهن في الكثير من الحالات عقولا كثيرة وتسلبها حرية التفكير المنطقي، وتدخلها في سجالات سياسية عقيمة، تعيد طرح الكثير من أسئلة جلد الذات والتحفيز على الكراهية.
هذا الاحتقان السياسي في الكثير من الدول سيُولّد عنه تطرف فكري وطني، وسيُحوّل الانكسار السياسي إلى هزيمة نفسية وثقافية يصعب معها إعادة التوازن لمجتمع مفكك داخليا وذاتيا، مما يبرر الهيمنة السياسية آنذاك ويعطيها شرعية فرض الهيبة المصطنعة عليه.
الأجيال تعيش حالة تيه، وكأنها تعيش أعراض الهزيمة، وربما يكون إخفاق الربيع العربي وجه من أوجه الهزيمة، لأنه أجهض حلم التغيير وبناء المجتمع المنشود والمنتظر. هذا المسار الذي وصلته بعض البلدان العربية من خراب سيصبح فزاعة مخيفة للشارع العربي، وقد يؤدي به للاستسلام للأمر الواقع، لأن الخراب العربي لم يأتي بجديد يذكر، بل نفس الوجوه بأسماء جديدة.
اليوم، النقاش الذي من المفروض أن يطرح عربيا، هو هذا الأفق الفكري والنهضوي والتنموي العربي، بعيدا عن نقاشات الجغرافيات المحددة، وأقلمة النقاش، لأنه سينتج فجوات في السجال الثقافي العربي العام. الخطر اليوم ليس خطر سياسي، لأنه مرحلي كما قلت، فالخطر ثقافي جوهري بالأساس، فالرعب السياسي يلهينا عن هذا الفضاء الحواري الرحب، الذي يمكنه من توحيد الشباب العربي.
فالنقاش الدائر عن مونديال قطر، والتعالي الأوروبي في التعاطي مع الأمور العربية، يضعنا على المحك في سياق فرض الذات، فلا قياس اليوم للقطبية، بل للتكتلات الإقليمية والبحث عن الأمن الغذائي والقومي. حاجتنا اليوم إلى مقاربات جديدة، إلى نقد بناء لحالنا، لواقع شبابنا التائه بين الحداثة والأصالة، بين التقليد وفرض الذات، نحن بحاجة للكثير من الجدل والجدال والفهم. نقد المشروع الثقافي العربي المعاصر هو الحل للخروج من انسداد الأفق، الذي سيُسهم بتخفيف حدة العزلة والخروج من حالة ضيق الجغرافيا الساخنة والهروب إلى الداخل، نحو مجال عام يناقش بصدق أزمة الوجود العربي، بعمق ثقافي تاريخي وفهم حقيقي للواقع المعاش بعيدا عن التيه السياسي، لكن بصياغة أسئلة جديدة تتناسب وطبيعة واقعنا وفهم وتشخيص الأزمة التي نعيشها اليوم.