أحيانا يتبادر إلى الذهن أن حالات الحزن والغضب وحتى الاكتئاب هي حالات عابرة، وأحيانا يتخيل لنا أننا أصبنا بمرض الخمول، فانعدمت لدى الجميع الرغبة على أي رد فعل حيال كل ما يحصل في مجتمعاتنا، وكأن هناك من يتلاعب بحزننا وأفراحنا، وكأنهم يسيرونها كما يشاءون، حتى يتمكنوا من التحكم بمصيرنا أكثر فأكثر، فقط من اجل تفادي لحظة حصول الانهيار الشامل.
ويبدو أن هذا الصمت الرهيب لدى العامة ليس عاديا، في المجتمعات الكسيحة عالميا، لن يولد إلا المزيد من الاحتقان الداخلي، وبذلك يصير السقوط المدوي، ليس بعيدا، فالتطوُّرات الاقتصادية الأخيرة والمشاكل التي يعيشها المجتمع الدولي، برمته، والآفاق والمخاطر الاقتصادية المحدقة، وضبابية مستقبل العلاقات الدولية، والسباق نحو التسلح والتكتلات العسكرية، كلها إشكالات تخيم على حالة عدم اليقين المستمرة منذ فترة طويلة.
يأتي المونديال، لا لينسينا الحرب في أوكرانيا وسيناريوهات تطورها، وسباق الهيمنة في المحيط الهادي، واستعراض القوى بين بكين وواشنطن والبحث عن فرض الأمر الواقع ولو بالقوة. يأتي المونديال ليسعد هذه الوجوه التي سئمت كل شيء، السياسة والبنادق والحروب، وجوه تأمل في عالم إنساني جديد، بعيدا عن التوترات والأوبئة والصراعات، التي قضت على شعوب ودول وحضارات.
فمنظومة السيطرة والانهيار، التي تؤمن بها الإمبريالية المتوحشة اليوم، تدكِّ ما تبقى من الأسس الأخلاقية التي تجمع بني البشر كيفما كانت دياناتهم ومعتقداتهم ولونهم، الحرب صارت ورقة رابحة بيد محور الشر، محور القضاء على الآخر، من اجل السيطرة، حتى المفاوضات تتم وفق مقتضيات أنانية، وعلوية ولا تحترم مصالح الأطراف المفاوضة، بل تحترم الأقوى وتعطيه الحق في البقاء وفي السيطرة.
لا يبدو غريبا، انتظار الانهيار الشامل في المنظومة الإنسانية والمجتمع الدولي، إن عجز القوى الكبرى على حفظ الاستقرار بشكل كامل، وهرولتها وراء مصالحها الضيقة، لن يجني منه المجتمع العالمي سوى الخراب.
ولا شيء يمنع هذا السيناريو من أن يصبح واقعا، فالتحالفات الدولية، أصبحت عاجزة عن تدارك الأخطاء التي وقعت فيها لعقود، وهي غير مستعدة للتراجع ولا للتنازل عن الدفاع عن مصالحها في أي مكان. ففي المدى القصير، على الأقل، ليست هناك بوادر انفراج سياسي محتمل عالميا، بل بالعكس يستمر التعثر في العبور نحو عالم آمن، في ظل تزايد التهديد النووي وتخصيبه أكثر فأكثر، والتهديد باستعماله، وتستمر إرادة المتحكمين بالعالم تحول دون تحقيق المجتمع المنشود، في حين يئن المواطن في ربوع كثيرة من هذا الكوكب، تحت وابل من المشاكل و الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية المُذلة.
ولأن الأمور اليوم، ملتبسة بين انتظار بعض الأمل صعب التحقيق، وبين اليأس من أي احتمال لإنقاذ الوضع الكارثي، يفضل العديد من الطبقات الواسعة والمقهورة أن تترقب نتائج المباريات، وتستمتع باللعبة، وهو نوع آخر من المسكنات، حتى لا تتفاقم العلل والأوجاع.
فلذة الفوز، إحساس جميل بمتعة اللعبة، التي تسيّست بدورها، وصار كل شيء سياسي بالفطرة، ولأن التفكير في الواقع المرير لن يصيبهم إلا بالمزيد من الاكتئاب وقلة النوم، وآلام الرأس والتحسر والخوف من الغد، فالمونديال فرصة للنسيان ولو لبعض الوقت.