المثقف من الإحباط النفسي إلى الوهن الكلي 2/2
التفكير العقلاني الذي ساد أثينا سمح بميلاده شروط إجتماعية ونفسية، وهو شكل جديد من أشكال التفكير وضع قطيعة مع الفكر الخيالي السائد. فهل تسمح نفس الظروف الإجتماعية والنفسية بميلاد تفكير اجتماعي عربي جديد؟ تفكير يخلص الأمة من نكباتها ويحررها من إرث ثقافي هش ويدفعها نحو تغيير جدري على المستوى الفكري والعملي.
إن أصالة أي مشروع فكري عربي تكمن بالأساس في تأكيد أسسه النظرية وأبعاده التطبيقية، ومدى واقعيته وتطابقه مع الواقع المجتمعي وقيمة تأثيره في تغيير مجريات الأحداث والواقع المعاش للفرد العربي.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو لماذا بعد أكثر من قرن كامل من العمل الفكري لا زال المشروع في عزلة تامة عن الواقع العربي؟ لماذا لم تستطع مشاريعنا التخلص من تبعيتها للغرب؟ أهو قصور من طرف المفكرين أم مقصود لخدمة النخبة التابعة؟
أظن أن الجواب جد معقد وبحاجة إلى تحليل وتفكيك للبنى الثقافية للفكر وتحليل سيكولوجية حالة المفكرين. لكني أرى أن السبب يعود إجمالا إلى القواعد والضوابط التي تقود هذا الخطاب، فهي ضوابط تبعية واستهلاكية للنظريات الغربية التي لا علاقة لها بالإنسان العربي ولا بالظواهر الإجتماعية والنفسية للمجتمع العربي ولا بالنشاط النفسي والتكوين الذهني للفرد العربي.
روابط الإستهلاك والتبعية للفكر الغربي يصعب معها الوثوق فيما يقدمه المفكرون من حلول ودراسات باسم خدمة الفرد العربي وتنميته. المشروع التفكيري يجب أن ينصب على تحليل الوعي العربي والهوية والدات العربية وهي محاور أساسية لبناء مشروع تفكير مجتمعي سليم، يملك أيضا مفاتيح تحليلية لمعرفة الإنسان العربي على مستوى التفكير، العقلانية، علاقاته وحالاته النفسية.
وبما أن هذه المشاريع الحالية لم تجد بعد طريقها إلى تخليص الفرد من حالاته الشاذة وتبعيته للأخر، كما أنها مشاريع لم تجد طريقها بعد لخلق ضوابط نظرية وأدوات منهجية مستقاة من الواقع المجتمعي العربي بكل اختلافاته، تناقضاته، تبايناته وتلوناته. لذلك فهي تظل غير قادرة على إيجاد توازن معرفي أكثر تطور ومردودية.
يمكن القول أن التفكير العربي الحالي بأبعاده النظرية والمنهجية ما زال يتخبط في أزمة متعددة المظاهر بين الموضوع والمنهج وبين النظرية والتطبيق وأيضا بين الإستهلاك والإنتاج. فهو يعاني من مظاهر التبعية للأخر وتكتنفه عوائق ومضايقات معرفية تحد من فعاليته ونجاعته لابتعاده عن الواقع المعاش اليومي.
وضعية معرفية هشة يعيشها التفكير العربي تشكل شرخا وفجوة تخترقه من الأعلى إلى الأسفل، نحن بحاجة إلى تفكير عربي محض يرتبط بمعاناة الفرد العربي والمحيط الطبيعي والثقافي بطريقة عضوية متينة، يساعد في الكشف عن خصائص الفرد العربي ويشركه في كل خطة فكرية تنموية حقيقية.
خلاصة القول أن مستوى التفكير العربي الحاضر لا يتوقع الأزمات ولا يحضر لها، أو بالأحرى لا يجد حلولا حتى للأزمات الحالية ولا يتعامل معها بعقلانية. بل يتخبط في فوضى مفاهيمية وحلول ترقيعية وتحاليل ناقصة فكرا ومنهجا ونظريا.