إذا كانت الدولة هي صورة الوعي الجماعي للأفراد والجماعات وهي أيضا ثمرة المستوى المعرفي للمجتمع الذي ينتجها، فإن المجتمع العربي عجز عن بناء هذه الدولة لعدة أسباب منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو خارجي.
إن الدعوة إلى وجود صيغة نظرية حديثة متفق عليها لدولة الغد، لا يمكن اعتباره كشرط مفروض من الغرب وليس شعارا يتهافت عليه المهووسون بالشعارات الفضفاضة الفارغة، بل حاجة ملحة ومطلبا ضروريا لوجودنا وعودتنا إلى مسار الحضارات.
هذا المطلب الإصلاحي بحاجة إلى تحديد الأهداف وتعيين الوسائل الكفيلة بتحقيقه، إذ لا بد من توافق حول مضمون المفهوم والرؤية والمنهج. ولن يتأتى ذلك إلا بتوحيد الخطاب الثقافي أولا بين المفكرين في العالم العربي كبادرة نحو نشر الوعي الوطني والحث على تجاوز كل الإختلافات الإيديولوجية والتعصب المذهبي، وتحديد المواقف والأهداف المشتركة.
فالواقع العربي المعاصر أفرز معطيات جديدة سياسيا واجتماعيا نتيجة لصراع حاد ومعقد وأحيانا دامي، أخذت ملامحه تتجلى بوضوح على الساحة العربية. ومن ثم يجب الحسم فيه بثورة فكرية مفاهيمية جديدة تعيد مفهوم الوطن والمواطن والقومية والدولة إلى الواجهة كضرورة ملحة وكنتيجة حتمية لهذا الصراع، والإعلان عن إحداث قطيعة تامة مع الأفكار السياسية السابقة التي سادت قبل الفوضى.
فكل المفاهيم الجديدة يجب أن تنتسب إلى هذا المناخ المعرفي والفكري والإجتماعي وتستجيب لشروط وجوده. فقد تأثر كثيرا رواد النهضة العربية القدامى بالثورة الفرنسية، كما خاض القوميون العرب في منتصف القرن صراعا سياسيا أكثر من الصراع الفكري-الثقافي، في حين خاض العلمانيون والإشتراكيون معارك سياسية واختلطت المفاهيم عليهم بين الموضوعية والإلحاد وموقف من الدين والولاء للمعسكر الشرقي، فكانت النتيجة إجهاض كل المشاريع النهضوية والقومية.
فمعظم هذه المشاريع -إن كانت معرفية- لم تأخذ بعين الإعتبار الخصائص الإجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع العربي، بل كان لمفكريها سجل معرفي آخر يأخذون منه وروافد أخرى يشربون منها.
المسألة ليست مجرد مسألة مفاهيم أو نظريات يجب تطبيقها أو صدام بين منظومتين متصارعتين بين الحديث والقديم، إنها دعوة لتجديد الفكر وبناء مشروع عربي محلي خالص يحاول التوفيق بين المفاهيم والمنظومات والأخد من شتى الأفكار لكنه لا ينعزل عن واقعه.
ففكر الإصلاح وقضية الدولة الوطنية يجب أن تكون جوهر اهتمامنا كما أن فحص الإختلافات المفاهيمية بدقة وتجديد النقاش الثقافي بين مختلف التيارات هو في حد ذاته رفع للتعتيم الذي يطال ويغلف واقعنا الفكري المعاصر. نحن بحاجة إلى إزالة الصدأ الذي لحق بالقومية العربية والعروبة الحضارية وفكرة الوحدة، صدأ التأويلات والإضافات التي حجبت المعنى الحقيقي الذي يعبر عن إرادة الشعوب منذ زمن.
نحن بحاجة إلى تسامح وتصالح مع الذات ومع الأخر، بعيدا عن الدفاع المتعصب ورفض الفكر الآخر. نحن بحاجة إلى توافق في تحديد المفاهيم الإصلاحية وتوحيد الخطاب لكي تنجح التجربة العربية الحديثة.
فالدولة –إن جاز تسميتها بذلك- في الوطن العربي منذ الإستقلال بنت مفهومها الحديث على كم هائل من مفاهيم القمع والعنف والكبت وإلغاء السياسة من المجتمع وإقصاء المجتمع من السياسة، أي بنيت فقط على مفهوم الأمن كقاعدة ومعيار لاستمرارها. حيث قامت النخب السياسية بقسر إرادة الأفراد مستخدمين شتى أنواع القهر والتعذيب وشل حركته وتقييد هامش حريته وإخراجه من النطاق العام والشأن السياسي إلى نطاقه الخاص الضيق به والمحاصر أيضا.