الصحافي البوسرغيني يكشف عن مساره المهني من العلم إلى رسالة الأمة
كتب صديقي وزميلي الأستاذ إدريس أبو الشمائل قصيدة شعرية في حقي بمناسبة الذكرى التسعين لميلادي ، فهزني ما ورد فيها من إشارة إلى أنني عرفت كيف أعيش الأيام التي قضيتها من حياتي ، بمعنى إنني كما تخيل ، استطعت التحكم في مجرى حياتي وفي تطورها ٠
فهل استطعت بالفعل ، التحكم في حياتي وأنا أقطع السنين والعقود وأخرج سالما من المحن في كثير من الأحوال ، مع ما واجهته من مشاكل ؟
وإذ أطرح على نفسي هذا السؤال ، ترجع بي الذاكرة إلى نشأتي الأولى وما تلاها وأتساءل : هل يحق لي أن أكشف عما كانت عليه حياتي ؟ وكيف تصرفت إزاء التحولات التي عرفتها أطوارها ، بكل الوعي والنضج الذي تتطلبه ، لكي لا أتعرض شخصيا لمحن الحياة ، وأعرض بالتالي أسرتي لما عاشته من تشتت في فترة من الفترات ؟.
عندما استعرض مراحل طفولتي وشبابي ، وحتى عندما تلقفتني الصحافة أو بالأحرى تصيدتها سنة ١٩٥٧ ، أصاب بالدوران ، وأتساءل :
هل كان القدر حقا قد كتب لي أن أتدرج في الحياة لتسمو بي الى أن أشعر ، بأنني محل تكريم من الذين عرفتهم شخصيا في مختلف مراحل حياتي العملية ، خصوصا في ميادين الإعلام ؟ أو من الذين تعرفوا علي عن طريق هذه التقنية المعجزة ، تقنية الأنترنيت التي لم يكن أحد قبل عقود قليلة ، يتخيل أنها ستصبح مشاعة وفي متناول أبسط الناس ، وستغير الحياة بالنسبة لمختلف الميادين التي يتحرك فيها البشر لتقارب بينهم ، ولتسهل عليهم الوصول إلى ما يرغبون فيه من معارف ومعلومات ٠.
وإذ أرجع إلى حياتي ، وهو بيت القصيد ، أعتقد أنه قلما حدث لأي إنسان في حياته الخاصة مثلما حدث لي ، فلقد كانت حياتي كلها تقريبا مليئة بالتحولات ومعرضة للمفاجآت ، سواء من حيث التنشئة والتكوين ، أو من حيث ما مارسته من المهن ٠
لقد كان القدر قد لوح بي ، في أول التحولات التي عرفتها حياتي ، وأنا في الخامسة أو السادسة من عمري ، من مراكش إلى القنيطرة ، حيث أوتي بي لأرافق إبن أسرة من أقاربي ، على غرار ما تفعله الإسر التي لها مكانة في المجتمع ٠ وهذا التنقل كان أول تحول في حياتي ، وكان قد ابتدأ في منتصف الثلاثينات ولم ينته ذلك التنقل ، ذهابا وإيابا بين القنيطرة والرباط والدار البيضاء إلا في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ٠
لقد كتب لي أن أقضي سبع أو ثماني سنوات من طفولتي في مدينة القنيطرة ، وأن أتلقى خلالها دراسة متقطعة في مدارس متنوعة ، وتعليم متنوع كان هو زادي الأساسي في دراستي الأولية وعدتي فيما اكتسبته بعد ذلك من معرفة أو معارف إن شئت ، بمعنى أنني خضت غمارالحياة دون أن أكون قد أحرزت أية شهادة دراسية أو تلقيت أي تكوين مهني من شأنه أن يضمن لي حياة مستقرة ٠.
كان الإتيان بي من مراكش الى القنيطرة أول تحول في حياتي ، أعقبه عودتي التلقائية إلى مراكش وأنا في الثالثة عشرة من عمري. ثم عدت إلى القنيطرة سنة ١٩٥٢ لأقضي بها خمس سنوات ، ومنها أنتقلت إلى الرباط سنة ١٩٥٧ لتتغير حياتي رأسا على عقب أي من عامل لا مهنة له إلى عالم الصحافة ، إثر نجاحي في مباراة خضتها لأنتسب إلى أسرة جريدة العلم، وقد ساعدني على ذلك شغفي باكتساب المعرفة وتطلعي وجرأتي في اقتحام العوالم مهما تكن طبيعتها ٠
ومن الرباط التي قضيت فيها حوالي سنتين منتسبا الى أسرة جريدة العلم ، انتقلت إلى الدار البيضاء ليكون لي حظ الأنتساب إلى أسرة جريدة التحرير بفضل أو بالأحرى بمبادرة من الزعيم والمناضل المرحوم المهدي بنبركة ، ثم إلى ما تلاها من صحف الحركة الإتحادية التي كانت قد توقفت سنة ١٩٦٦ باختفاء جريدة المحرر ، فكان علي حينئذ أن إعود إلى الرباط ، وأنتسب هذه المرة الى الصحافة لا كمناضل بل كصحفي ممتهن ، ولأتنقل بين عدد من الصحف كان أهمها جريدة الأنباء ٠
لقد كان من الممكن أن تكون المحنة التي تعرضت لها سنة ١٩٨٢ ، بعد قرار الطرد الجائر من قبل إدارة جريدة الميثاق الوطني ، آخر فصل في حياتي المهنية كصحفي ، بعد أن كنت قد قضيت خمسا وعشرين سنة في هذه المهنة الشريفة ، ورأيت أنها وإن كانت مزاياها مغرية ، فأنها لم تكن تضمن الأستقرار والكسب القار الذي يتطلبه التكفل بالأسرة وضمان الكسب الضروري لضمان تربية ودراسة الأبناء ٠
وابتداء من منتصف سنة ١٩٨٢ ستبتدئ محن قاسية عانيت خلالها من تشتت في الأسرة بين الرباط والدار البيضاء ، لم تنهها سوى الفرصة التي أتاحها لي الصديق العزيز والرائد الإعلامي الكبير المرحوم الأستاذ عبد الله الستوكي ، لأعود في ربيع سنة ١٩٨٣ إلى مهنة الصحافة ، بانتسابي لأسرة جريدة رسالة الأمة ، ولمدة عشر سنوات ضمنت لي نوعا من الاستقرار دون أن يتوفرلي ما تتطلبه الحياة الإسرية من أطمئنان على مستقبل الأبناء ، وإن كان الأبن البكر منهم قد استطاع بمجهوده الفردي أن يلتحق بالدراسة الجامعية بفرنسا ويضمن لمستقبله ولأسرته هناك العيش الرغيد ، ولأسرته هنا في المغرب بعضا من الإطمئنان ٠.
في كل مرحلة من مراحل حياتي كانت لي فيها ذكريات تحتاج إلى شحذ الذاكرة لعلها تجود بما يستحق التسجيل ، وتقديمه ليصح علي القول بأنني كونت نفسي بنفسي وأوصف بأنني عصامي وهو الوصف المستخلص من قول الشاعرالعربي:
نفس عصام سيدت عصاما وعلمته الكر والإقدام