إنقاذ التربية.. هل فات الأوان؟
لا يمكن الحديث عن تنمية دون الحديث عن التربية، فهي أساس التنمية وركيزتها، فالمفهومان لابد أن يتقاطعا في نقطة واحدة وأن تتحد مسيرتهما على خط تصاعدي في حركة التطور، وإذا لم يحصل التفاعل والانسجام بين التنمية والتكوين الدراسي للطفل فلن يمكن الحديث عن المستقبل. الطفل لازال، نسبيا، في نظرة مجتمعنا مجرد مخلوق بريء يدخل السرور ويثري الحياة الزوجية بنكهة خاصة، الطفل في مجتمعنا الحالي لم يرق في وجداننا إلى ذلك المستوى المطلوب ليصبح قضية وهاجسا.
إن الثقافة تشكل جزءا جوهريا من حياة كل فرد وحياة كل جماعة وأن التنمية التي يجب أن يكون هدفها الأول منصبا على الإنسان، يجب أن يكون لها بعد ثقافي، فبدون تربية لا يمكن الحديث عن الغد، والأطفال في كل أمة يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل، وكل الجهود يجب أن تنصب على عملية التنشئة الاجتماعية، والتنشئة تعني العمل للمستقبل، والوقفة المستقبلية تلاءم التربية كل الملائمة.
لن يخرج عالم الغد من المدرسة حتى لو أُخذت في أوسع معانيها، فالمدرسة واحد من عوامل التطور المجتمعي، ولكنها ليست العامل الوحيد، ومفهوم الإعداد يجب أن ينفتح على أمرين : إعداد عالم الغد وإعداد الأطفال لعالم الغد. وعالم الغد هذا الذي نتحدث عنه ليس العالم العفوي التلقائي، بل عالم مخطط له بشكل جيد وذلك عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية وتربية فعالة تضمن كل الحقوق والواجبات لأطفال اليوم.
التربية يجب أن تدرس وتأخذ بعين الاعتبار ليس فقط ميكانيزمات التلقين وكيفية التعليم، ولكن كل ما يتعلق بالمؤسسات التي تؤثر من بعيد أو قريب على تنشئة الطفل، إن التربية تمارس تأثيراتها لا في المدرسة وحدها ولكن من خلال مؤسسات اجتماعية أخرى متعددة مثل الأسرة والبيئة المحلية والمجتمع القومي وما يوجد فيه من وسائط ثقافية أخرى.
لذا يجب التركيز على النقد والتساؤل المنظم حول الشروط السوسيوثقافية العلمية لاكتساب المعرفة ومن هنا نصل إلى القول بأن البحث في التربية يتجه نحو وضع المؤسسة التعليمية والأسرية وغيرهما من القنوات التربوية موضع تساؤل مستمر.
والسوسيولوجيا تتميز بتعدد القضايا التي تشتغل عليها وبقوة نقدها ويقظتها المعرفية وهدفها التطوري والقفز عن كل سلبيات الحاضر، فالاهتمام بقضايا التربية هو قديم قدم التفكير الإنساني نظرا لما تشكله من دور فعال وثقل في تطور المجتمعات، إنها باختصار المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية لأي مجتمع كان. والتربية ظل يطبعها دائما طابع العمومية والمثالية حتى ظهور المجتمع الصناعي حيث أضحت الحاجة ضرورية لظهور مؤسسات تهتم بعالم التربية والتنشئة الاجتماعية وعلى رأسها المؤسسة التعليمية كمتمم لدور الأسرة وكبديل في بعض الأحيان.
والباحث في التربية يجد نفسه دائما أمام تساؤل مستمر عن علاقة التربية بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية وكل المؤسسات الاجتماعية التي تهدف إلى تنشئة الطفل، وكلها عوامل تتميز بكثير من التداخل والتناقض وعدم الوضوح.
إن بدايات هذا العلم وتعريفه تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، ومع دروس E. Durkheim والتي نشرت بعد وفاته تحت عنوان التربية الذهنية، والتي ضمت تعريفا للتربية كما تضمنتها أيضا مؤلفاته الأخرى، إلى جانب دراسات Paul Lapie حول المدرسة والحراك الاجتماعي وكذا Sorokin. كما صادف ماركس Marx Kأيضا المدرسة في تحليلاته الاقتصادية في رأس المال وعند نقده لمخطط Gotha. كما عالج M. Weber أيضا العلاقات والروابط بين أنواع تنظيمات السلطة وأنواع الأفكار التربوية في الاقتصاد والمجتمع.
إلا أن دوركهايم كان الأكثر تأثيرا باتجاهه الإصلاحي الإنساني حيث يحدد موقفه من التربية على أنها شيء اجتماعي chose sociale، يعني أنها تضع الطفل في وضع مباشر مع مجتمع محدد، وأنها تطبيع اجتماعي Socialisation . ويضيف Durkheim في تفسيره لماهية التربية فيقول : التربية هي الفعل الممارس من طرف الجيل البالغ على الأجيال التي لم تتأهل بعد للحياة الاجتماعية وهدفها أن تنمي في حالاته الفيزيائية والثقافية والذهنية التي يحتاجها هو والمجتمع السياسي في مجمله والمجال الاجتماعي الذي ينتمي إليه. والتطييع الاجتماعي الذي يتحدث عنه Durkheim هو تلك الآلية التي يتم من خلالها دمج الناشئة ضمن نسيج نمط حياة سائد في المجتمع وفق متطلبات كل نمط وتوافقاته العلائقية والمعرفية والتطبيع الاجتماعي عملية ثنائية الجانب :
- استيعاب الناشئة للتجربة الاجتماعية بالدخول في البيئة الاجتماعية، في نظام العلاقات الاجتماعية.
- عملية تجديد إنتاج نظام العلاقات الاجتماعية من طرف الناشئة.
ويؤكد Durkheim على دور الدولة في الإشراف على التربية باعتبارها الساهرة على تسيير المؤسسات التربوية لخلق ذلك الإنسان المطلوب والمرغوب فيه اجتماعيا. ولذا يرى Durkheim أن هدف التربية تحقيق الإنسان لا كما خلقته الطبيعة، وإنما هو الإنسان كما يريد المجتمع أن يكون. ولذلك فهو يقول : في كل منا يوجد كائنان لا يمكن الفصل بينهما إلا على نحو تجريدي، أحدهما نتاج كل الحالات الذهنية الخاصة بنا وبحياتنا الشخصية وهو ما نطلق عليه الكائن الفردي، أما الكائن الآخر فهو نظام من الأفكار والمشاعر والعادات التي لا تعبر عن شخصيتنا بل عن شخصية الجماعة والمجتمع الذي ننتمي إليه كالعقائد الدينية والممارسات الأخلاقية والتقاليد القومية والمشاعر الجمعية من أي نوع، وهي تشكل في مجموعها الكائن الاجتماعي الآخر. وبناء مثل هذا الكائن الاجتماعي يمثل في نهاية المطاف هدف التربية وغايتها.
وهناك اتجاه آخر في التربية وهو اتجاه اقتصادي في التربية ويعني الاستثمار في التربية من أجل سوق العمل، حيث لجأت بعض المجتمعات إلى جعل التربية في خدمة الاقتصادي وهو ما أفقد التربية قيمتها الثقافية والإنسانية وجعلها ماكينة لإنتاج روبوات جاهزة لسوق الشغل. بعيدا كل البعد عن المعايير الأخلاقية التي تنبني عليها التربية، بل يركز هذا الاتجاه فقط على تلبية حاجيات السوق، مما جعل التربية في مفترق الطرق بين اقتصاد السوق والتنشئة الاجتماعية.