مباريات كرة القدم لم تكن أبدا محطّ اهتمام بالنسبة لي، لكن بعد تأهل المنتخب المغربي وفوزه على التوالي كما سمعت على كل من بلجيكا، وهي مباراة لم أحضرها رغم المتابعات المكثفة لأغلب المولوعين بهذه اللعبة، التي يعتبرها البعض فقط تسلية ومضيعة للوقت، بل هناك من يقول لماذا أتابع هذه التفاهة، ماذا سأستفيد ؟، هم سيحصلون على المال، وأنا ماذا سأجني من متابعتهم؟
أتذكر أنه أيام امتحانات الجامعة كانت هناك مباريات للتنس، وكذلك الألعاب الأولمبية، وكنت أحضر بعض فعالياتها، هاصة مباريات لأكبر المتألقين مثل “روجر فيدرير ورافاييل نادال” فكنت أحس بالحماسة، وأنبهر وأفرح لبعض اللاعبين الذين لديهم قدرة فائقة على الفوز رغم هزيمتهم أوّل الأمر ، وهو أمر كان يشجعني ويبعث في قلبي انفعالات إيجابية حتى أقتدي بهم وأتمم مراجعة دروسي وأنكب أكثر على حفظ وتلخيص دروسي، والاجتهاد أكثر حتى أحقق النجاح بل التفوق، فحالي كحالهم، أنا الآن في وقت عصيب لدي مواد كثيرة والامتحانات على الأبواب، فما الحل؟ هل أستسلم أم أجاهد مثلهم وأقول في نفسي كل شيء ممكن، وأبذل كل طاقتي لأفوز بشهادتي الجامعية، وبالفعل حالة عدم استسلامهم كلاعبين يعانون من وقت عصيب وهي الهزيمة، تدفع بهمتي إلى الأمام، – مع العلم أن هؤلاء اللاعبين ليسوا من بلدي -.
أما الآن وفي هذه الأيام التي أعتبرها أيام مباركة وملهمة، وبعد المبارتين الأولتين للمنتخب الوطني المغربي ومشاركته المشرفة في فعاليات كأس العالم، أصبحت أحرص على توضيب المنزل، وسؤال أسرتي يوم المباراة المغربية عن نوع الأكل والمشروبات التي يحبون أن يرافقوا بها متابعة هاته المباراة التي تسبقها الدعوات وصلاة ركعتين لقضاء الحاجة من أجل فوز أسود الأطلس فيها.
وفعلا إحساسي تغير منذ ذلك الحين، وأصبح لدي أمل أنني سأحقق كل ما أحلم به، فقط علي الاجتهاد فلا أحد يستأثر بالفوز دائما وأبدا، كما أن الأمل في تحقيق أولادي لأحلامهم مهما كانت، كبر في أعماق قلبي، “إن الله على كل شيء قدير”، فعلا المستحيل ليس مغربيا، هذا ما أصبحت أؤمن به، فالفكر النمطي السلبي اقتلع من جذوره بقدرة قادر.
خاصة في هذه اللعبة التي تغيرت فيها موازين القوى بين ليلة وضحاها، تؤكد أن التاريخ ليس لديه عزيز، فرغم أن الأوروبيين والمنتمين لأمريكا وأمريكا اللاتينية هم من يفوزون، دائما، إلا أن هناك إرادة عربية ومغربية خاصة تؤمن بالفوز وتعمل على تحقيقه بكل مثابرة.
فبتأهل المنتخب المغربية الوطني برفقة مدربه وليد الركراكي الذي ترفع له القبعة على رؤيته الاستراتيجية وتفوقه في عمله كمدرب رياضي ونفسي، وكذلك أحييه على مستواه العالي حين التحدث مع الصحافة، هناك رقي وصدق وايمان بالحلم المغربي، فقد منحنا حق الحلم وبعث فينا الأمل من جديد، ألا تعتقدون أن أمريكا كدولة عظمى أصبحت كذلك لعملها على تغذية مواطنيها بفكرة إيجابية، وهي الحلم الأمريكي، ألا تعتقدون أن النجاح أساسه الحلم به والايمان به والعمل عليه، فمهما قالوا لك أنت لا تستطيع لا تصدق ذلك، صدق حلمك واعمل للوصول إليه وستنجح سواء كنت فردا أم دولة، سر النجاح هو هذا، الايمان بأن المستحيل ليس أنت.
لقد بينت فعاليات كأس العالم أن المعدن الماسي لشعبنا وملكنا، واعتزاز كل المغاربة أينما وجدوا بانتمائهم لهذا الوطن، وفخر العرب بعروبتهم، وتباهي المسلمين بدينهم.
لقد تبين لجميع العالم من نحن، وكيف تربينا أمهاتنا تربية أصيلة تقوم على الاعتراف بالجميل، والافتخار بالأهل، وتلاحم الشعب بملكه، وأظهرت فنون الاحتفال لدينا وصدق المشاعر.
فعلا هذه الفعاليات لكم تمنحنا فرصة الفوز بالكأس، لكننا ربحنا العالم بأسره.
فقد أظهرت الأيام القليلة الماضية جوهر المغرب والمغاربة، أظهرت بر الأبناء بأمهاتهم وآبائهم، وافتخار المغاربة بانتمائهم العربي والافريقي والإسلامي، وايمانهم بقضية الأمة العربية وهي القضية الفلسطينية، فلم تمر مناسبة إلا وحمل اللاعبون والمشجعون علم فلسطين، تعبيرا على التضامن ، كما ظهر رقي المغاربة في التعبير عن فرحهم وابتهاجهم المتميز والذي يعبر عن الهوية المغربية، إذ أن المشجعين أظهروا هويتهم وثقافتهم في كل مظاهر احتفالاتهم.
ورقيهم يظهر كذلك في تهنئتهم للرابح، رغم كل الظروف والضغوط والمؤامرات، فهم رياضيون محترفون بامتياز.
ولن أنسى أبدا مبادرة المشجعين في تنظيف أماكنه بكل حب وبكل إتقان.
وكنت مفتخرة كثيرا بنشيدنا الوطني، حيث شارك كل الحاضرين في مركبات قطر الأسطورية في غناء النشيد الوطني بكل حماسة ووطنية.
وكانت المفاجأة السارة هي مظاهر التحام الملك بالشعب، ويظهر ذلك في مشاركة جلالته احتفال شعبه بتألق أسود الأطلس بنفس طريقة احتفال الشعب، بالخروج بسيارته إلى الشوارع وارتدائه للقميص الوطني، وهي مبادرة تلقائية وعفوية تؤكد تلاحم الملك وشعبه والحب والثقة المتبادلة.
ومن مظاهر ربحنا للعالم بدل كأسه فقط، مشاركة الأجانب في ترداد نشيدنا الوطني، وكذا محاولة الكل التحدث بالدارجة المغربية، وارتداء الملابس التقليدية المغربية، ومدافعة الكل عن منتخب وطني شاب تعرض للكثير من الحيف والظلم.
لقد كانت هذه الفعاليات بمثابة نفض الغبار عن وحدتنا العربية، وتأكيد للحب والوئام بين الشعوب العربية.
واعتبر المتخصصون هذه الدورة من أروع دورات كأس العالم، فهي نسخة نقية خالية من الكحوليات ومن المخدرات ومن مظاهر الخلاعة والفساد، فقد فرضت قطر مجموعة من القوانين التي تتماشى مع انتمائها الإسلامي والعربي، وهذا يمثل انتصارا لقوة الثقافة والحضارة العربية والإسلامية.
إنها ليست مجرد لعبة ومضيعة للوقت كما يتوهم البعض الذي يفتقد للرغبة في عيش اللحظة والبحث عن المتعة التي تعد الخط الناظم لحياة متوازنة تجمع بين الجد واللعب، بل إن فعاليات كأس العالم تمثل صورة حقيقية عن كل مشارك في هذه الفعاليات، من دولة وشعب منظمين، ومن دولة وشعب مشاركين.
وأعتبر أن هذه الأحاسيس المفعمة بالأمل والمرتبطة بقوة انتماء المغاربة كأمة إسلامية وعربية ببلدهم وحبهم لرايتهم ولملكهم وكذا لعروبتهم فرصة للمضي قدما، إذ لابد من إعادة النظر في الاستراتيجية والمنهج والتصور العام لسياسة المغرب في مجال مرة القدم خاصة وفي باقي الرياضات عامة.
إذ أننا لابد أن نسعى للنهوض بهذه المجالات واستغلال قدرات شبابنا، حتى أولا ننمي قدراتهم البدنية والذهنية، وثانيا نملأ أوقاتهم بكل ما هو مفيد ليبتعدوا عن كل الملهيات الضارة مثل المخدرات وغيرها، فالعقل السليم في الجسم السليم، وعملية البناء هذه ضرورية لكل أمة تريد تحقيق أحلامها.
ولتحقيق ما سبق لابد أن نتعلم من تجارب الناجحين، ما أعرفه من خلال كل الأفلام الأمريكية – بالنسبة للرائدين في الرياضة – إلى جانب التحصيل العلمي سواء الثانوي أو الجامعي يحصلون على توجيه رياضي مهم ومميز، وهذه المزاوجة بين العقل والجسم في كل المراحل التعليمية بمدينة تحقيق الأحلام أثمرت لاعبين عالميين، حققوا نتائج باهرة في الألعاب الأولمبية في كل الرياضات، والدليل على ذلك عدد الميداليات الذهبية المحصودة في كل الرياضات بالنسبة لهذه الدولة على مر السنين.
أعلم أنه لا وجه للمقارنة فيما يخص الإمكانات المادية ، لكني أتحدث عن تبني نفس الفكرة والمنطق والاستراتيجية، لأن التخطيط والعمل الاستراتيجي والعلمي و البناء الصحيح هو السبيل الوحيد للنهوض بالرياضات بالمغرب خاصة كرة القدم، فالرياضة المدرسية هي الأساس لإنتاج لاعبين في مستوى عالمي.
لذلك أناشد المسؤولين لكي يعملوا على وضع استراتيجية تتناسب وإمكانات المغرب لانتاج جيل رياضي مغربي يضاهي الأجيال الناجحة رياضيا في العالم.
ووطنيتنا هي الوقود الذي لابد من الاستفادة منه لجني ثمار كل عمل في هذا الإطار.
وختاما فقد أبان شعبنا المغربي عن أصالته وعن قيمه الرفيعة، وأظهر تنوعه الثقافي وقوة انتمائه وعبر عن حماسته وفرحته بمنتخبه وبعروبته.
كما بين شموخه في مواقفه، كما أظهرت لنا فعاليات هذا الكأس العالمي بنكهة عربية وإسلامية أصدقائنا وأعدائنا، ووضعت كل واحد في مقامه ومكانته حسب مواقفه.
ولن ننسى الصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشكل جماعي نصرة لرسولنا الكريم بصوت عال في سماء قطر الحبيبة خشعت له القلوب.
ولي اليقين بأن هذه هي البداية فقط، ولازالت الانتصارات بكل أشكالها آتية لا محالة، ولعل هذا كله ما هو إلا بداية لاسترجاع أمجاد العرب وبداية للنهوض بحضارتنا وقيمنا.
وما أسطر عليه أن هذه الفعاليات أبانت أن الانتصار لا يتعلق بتاريخ الانسان، بل بجهده وبعزيمته وبإصراره وبحبه لوطنه وبثقته في نفسه وقدراته وقبل هذا وذاك في قدرة الله.
لذلك دعونا من إحباطات الماضي، ومن العيش على أمجاد الماضي كذلك سواء أمجاد قديمة أو حديثة، ولنربي أجيالنا على العمل للحاضر فهو بيدنا، ولكل مجتهد نصيب.
وما فعله المنتخب المغربي رسم وسطر للحلم المغربي والعربي في الانتصار والتفوق في كل المجالات وتم محو عقدة الأجنبي، وزرع في أبنائنا العرب والمغاربة خاصة يقينا في التفوق والنجاح بعد العمل والاجتهاد والتخطيط السليم المبني على العلم.
والأمل باق ما دمنا نعمل.