منذ أن كان المغرب مغربا، ضحى المغاربة بكل غال ونفيس من أجل استقلال بلدهم بكل خصائصه التي شكلت نظاما عاما لا يجوز المساس به، بل أكثر من ذلك، دافعوا عن استقلال من احتلهم حتى انتزعوا سيادة البلاد والعباد بخصائصها الشاملة الكاملة، حين أعلن المشمول بعفو الله السلطان محمد الخامس سنة 1955 بعد عودته من المنفى إنهاء نظام الحماية، وكذلك دافع موثقو المملكة عن استقلال مهنتهم بكل خصائصها كوطن لهم يتسع لحلم الطفولة، وهاجس الشباب، وذكريات الشيخوخة، ومقبرة الغزاة والطامعين، إلى أن دخلت المملكة المغربية ملكا وشعبا عصر الجهاد الأكبر، تأسيسا لدولة مدنية معاصرة، بمؤسسات مبنية على العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومهن قانونية مساعدة للعدالة، منظمة تنظيما لا يخامره خلط، مؤطرة تأطيرا قانونيا نافيا لكل جهالة، ومعاقبا كل من خالف شرط عدم التناف، أو وقع في شبهة أو تدليس.
والتشريع -كسلطة سيادية- هو قيام سلطة عامة مختصة في الدولة بتسطير المادة القانونية المسومة بقوة الإلزام، بصياغة فنية تفيد ما يفيده القانون بمعناه الخاص، كما للتشريع مركز الصدارة في أغلب دول الكون، كأول مصدر للقاعدة القانونية الرسمية، باعتباره أكثر أهمية مقارنة بباقي مصادر القانون، بخصائصه وميزاته وعيوبه.
ولئن كانت خصائص التشريع تتمظهر في: قيام السلطة العامة بوضعه كتشريع مكتوب مجرد ملزم وعمومي، فإن ميزاته: الوضوح، والسريان على الدولة بأكملها كظاهرة سياسية وقانونية، وسرعة سنه وتعديله، مع أثره الهام في تطوير المجتمع والمهن، أما عيوب التشريع فتجمل في: صدوره عن سلطة غير مختصة، أو اتصافه بالجمود الذي يؤدي إلى فقدان الثقة بالقانون، أو تخلفه عن مسايرة تطور المجتمع والمهن، حتى وإن تم سنه وإصداره من طرف البرلمان طبقا للمادة 71 من دستور 2011، بخلاف العرف الذي لا تنشئه سلطة مختصة، بل هو نتاج رغبة وحاجة وضرورة المجتمع، وهذا ما يصطلح عليه بأزمة التشريع، علتها تغليب المصلحة السياسية في الصياغة، وغياب دور الجامعة في تحليل وتقويم جودتها، مع عدم فتح نقاش عميق مع من يهمه أمر المستجد التشريعي وكأن القانون يصنع من الأعلى لا من الأسفل، والنتيجة الطبيعية نصوص مفتوحة نحو المجهول، وتهديد مستقبل الأمن التشريعي في البلاد، وهذا تحذير من أمة التوثيق العصري قبل الوقوع في المحظور.
ولم يكن اختيار المملكة المغربية لمبدإ فصل السلط اختيارا اعتباطيا، بل لاعتباره من المبادئ الأساسية التي ترتكز عليها النظم الديمقراطية العالمية، وتؤسس عليها دولة الحق والقانون، كمبدإ رئيسي للديمقراطية في جوهرها، و يرجع في هذا إلى المفكر الفرنسي الشهير مونتيسكيو حيث رسم حسن صياغة مبدإ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، في مؤلف “روح القوانين” الذي ألفه عام 1748، ومدى اعتماده في النظم الديمقراطية التي تأثرت فكريا بمُعطى جون جاك روسو الفلسفي المسطر في كتابه “العقد الاجتماعي” قطعا للاستبداد والظلم والعدوان على الحقوق والحريات، وغياب دولة القانون والمشروعية، وهذا تذكير من أسرة التوثيق العصري بحكمة السلطة التشريعية في تسيير شؤون البلاد والعباد وتدبيرها.
كما لم يكن كذلك اختيار المملكة لتنظيم قضائي رقم 38/15 تنظيما واختصاصا، اختيارا عفويا، بل محكما في فلسفته وتصوره، بأن جعل قضاء عاديا وآخر استثنائيا وبمسطرة خصوصية، وجعل لكل منهما قانونا منظِّما واختصاصا حصريا، وكلاهما يُصدِر الأحكام والقرارات باسم جلالة الملك وطبقا للقانون، وجعل محكمة النقض على قمة الهرم القضائي، غداة الاستقلال و كانت تسمى آنذاك المجلس الأعلى، وأشمل نفوذَها كل التراب الوطني، إلى أن تم تغيير هذه التسمية بمقتضى ظهير شريف رقم 1.11.170 صادر في 27 من ذي القعدة 1432 (25 أكتوبر 2011) بتنفيذ القانون رقم 58.11 المتعلق بمحكمة النقض، المغير بموجبه الظهير الشريف رقم 1.57.223 الصادر في 2 ربيع الأول 1377 (27 سبتمبر 1957) بشأن المجلس الأعلى، ولا أحد يستطيع إنكار دور القضاء والقضاة في تحقيق الأمن الاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات، وتشجيع الاستثمار، وهنا ننوّه بصفتنا موثقين متتبعين إلى جانب الرأي العام بالجهود التي بذلها قضاة المملكة المطبوعة بالمعايير القانونية، وتجويد الخدمات، والإصغاء للتظلمات، بأن رفعوا عدد الأحكام التي أصدروها ب 44.40% عما أنتجوه سنة 2020، واستطاعوا بفَعاليتهم أن يواجهوا تحديات تضخم القضايا المسجلة سنة 2021، والتي ارتفع عددها عن السنة السابقة بـ38 % رغم جائحة كورونا إخلاصا ووفاءا لرسالتهم الدستورية.
وترسيخا لدولة الحق والقانون، تمّ فصل النيابة العامة عن وزارة العدل في أكتوبر 2017 كسلطة اتهام مستقلة، وتحت رئاسة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية، تفعيلا للمادتين 110 و116 من الدستور والقانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي للقضاة لاسيما المادتين 111و117 من هذا القانون، خطوة جريئة لفك تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية، باعتبار البرلمان ومنذ 1956 لم يقم بأية محاسبة لوزارة العدل عن السياسات الجنائية المتبعة، كإصلاح عميق للمنظومة القضائية، وحل كفيل بعدم تكرار أخطاء التجارب السابقة، الإصلاح الذي وصفه وانتقده عبد اللطيف وهبي بصفته آنذاك برلمانيا عن حزب الأصالة والمعاصرة بقوله: إن البرلمان بهذا التصويت سيجعل جهازا يملك الكثير من السلطات خارج كل مراقبة، معلنا انه سيقدم طعنا ضد القانون أمام المحكمة الدستورية، متناسيا الرقابة المؤسساتية المتمثلة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية بتشكيلته الجديدة، ورقابة القضاء الجالس المقيدة بنص الدستور، ورقابة خارجية يمارسها المجتمع المدني، إضافة إلى رقابة المؤسسة الملكية التي تبقى بقوة الواقع والدستور ضامنة لاستقلال السلطة القضائية.
كما سطر استقلال المهن القانونية بتنظيمات تشريعية خاصة بداية بكل صنف، حيث نظم ظهير 7 يوليوز 1914 خطة العدالة، وظهير 10 يناير 1924 مهنة المحاماة ومزاولتها، وظهير 7 يناير 1928 المتعلق بالوكيل القضائي، وظهير 16 دجنبر 1929 المتعلق المنظم لمجالس الخبراء، وظهير 18 دجنبر 1935 و 16 مارس 1938 المتعلق بالوكيل القضائي، وظهير 12 يناير 1945 المتعلق بتنظيم مهنة رجال الأعمال، وشرع للتوثيق العصري ظهير 5 ماي 1925 خاصا بتخصيص خصائصه، ومهامه ومسؤولياته، مستشرفا لدوره الريادي في تطوير مؤسسة التوثيق بالمملكة وفقا للمعايير الدولية، وربحا لرهان الأمن التعاقدي، الذي اعتمدته المملكة وقاية وتحصينا وضمانا لحماية المراكز القانونية للمستثمر، وتخليقا للتجارة التعاقدية واستقرارا لمعاملاتها، من داخل التوجهات الاستراتيجية للمغرب الرامية إلى تشجيع الاستثمار وتحسين مناخ الأعمال، تناغما مع مقتضيات العولمة وتطورات النظام العالمي بثورته الرقمية.
فالتوثيق العصري ومنذ الظهير الشريف المؤرخ في 10 شوال 1343 الموافق 4 ماي 1925 بتنفيذ قانون 45/00 ساهم في مؤازرة توجه المملكة في تحديث نظامها القانوني والقضائي والاقتصادي، وشكل أحد الأنظمة القانونية المساهمة في نجز وعد الاستقرار القانوني بعقود رسمية بأعلى المعايير المهنية التي تعادل في حجيتها أحكام القضاء، وما زال مَرفقا من أهم مرافق الدولة، إلى 22 نونبر2011 تاريخ إصدار قانون رقم 32.09 بتعدد ثغراته، مصدر ثقة واطمئنان للدولة والمواطن، كمؤسسة مؤثرة في استقرار المعاملات وجلب الاستثمار، ورافد من روافد إصلاح القضاء، وأحد الموارد المالية للدولة، وقوة اقتراحية في صناعة السلم القانوني وتطوير الأداء الاقتصادي للبلد، لحفظه للحقوق التي هي أصل الدعاوى وسبب المنازعات، باعتباره عدالة اختيارية ووقائية إلى جانب العدالة الرسمية في تدعيم شفافية عالم الأعمال وتداول الأموال.
وإن كان التشريع تنظيما أو إصلاحا ضرورة اقتضتها طبيعة تنظيم المهن تنظيما محكما، حتى يستقيم تدبير منافعها ومرافقها، فأول واجبات الدولة تحصين مؤسساتها بحماية تشريعية تليق بخصائصها ومراكزها، وأول مهامّ البرلمان -كعصب الدولة ومستودع الفكرة ومصدر قوة الدفع فيها إلى النمو والتقدم أو الانكماش والتعثر- فحص التشريعات قبل إصدارها حتى لا تقل جودة عن سابقيها، وبضمانات قضاء دستوري يحفظ سمو الدستور ويلزم كل سلطة بحدودها الدستورية، وهذا وجه من أوجه العدالة التشريعية في فلسفة الأمن القانوني وأحد المفاهيم التي يحرص كل نظام سياسي ليعمل على توفيره وإرسائه لاستتباب الثقة، وترسيخ مبدإ دولة القانون التي من سماتها الأساسية سيادة القانون، الضامن لاستقلال السلط والمهن والحريات.
وقد انخرطت مهنة التوثيق العصري بتاريخها المليء بالعبر، في تقوية فرصة نجاح رهان الأمن التعاقدي مساهمة فكرا وممارسة في ورش تخليق المهن القانونية والقضائية، كمفهوم عام للأخلاق مبتكر من الفيلسوف بنتهام سنة 1962، وقامت بدورها كما يجب في إصلاح منظومة العدالة، مؤمنة بالعلاقة الوطيدة بين الأخلاق والقانون، مهتمة إلى جانب المشرع بكيان المجتمع الأخلاقي، داعية إلى تطبيق الأخلاق المهنية كواجب أدبي يحكم سلوك المهني أثناء القيام بواجبه، ويحافظ على سمعة وشرف المهنة، على أساس من الالتزام بالنزاهة والأمانة والخبرة وتقدير المسؤولية، تقويما للسلوك المهني، وتوعية بالدور المميز للتوثيق العصري محليا ودوليا، راصدة للإكراهات المهنية المعاصرة، محددة لآليات تفعيل وترسيخ التخليق وطرق تنفيذ تخليق منظومة العدالة، وقد كان لهيئة التوثيق العصري النصيب الأكبر في التوصيات التي جاء بها ميثاق تخليق منظومة العدالة بالمملكة، وأهمها اختصارا: استقلالية المهن، والرفع من كفاءتها، تدعيم النزاهة والشفافية، وتسطير مدونة سلوك، وسد الثغرات القانونية والمؤسساتية.
وامتدادا لنهج التطوير والإصلاح الشمولي، ارتفع صوت الموثقين بضرورة ملاءمة قانون المهنة 32-09 للتطور السوسيواقتصادي لمجتمع القانون بالمغرب، حتى لا يبقى نشازا عن مناخ التوثيق الدولي شكلا ومضمونا، باستثناء مقتضى المادة 39 المنظمة لصندوق التأمين للموثقين وتمويله، بعدما رصدت الممارسة المهنية قصوره التشريعي المتعدد، والذي يهدد في العمق استقلال وامتيازات وخصائص المهنة في محاولة صريحة للإجهاز على مكتسباتها التاريخية، وصورها على سبيل المثال لا الحصر: تسهيل عدم دقة منطوق القانون المنظم، انتحال الصفة القانونية لممتهني التوثيق العصري رغم شرط المادة 3 وما يليها من القانون المنظم 32/09، المروءة وحسن الأخلاق والكفاءة العلمية، وعدم الوجود في حالة التنافي، تكريس نوع من الريع المهني في المادة 8 التي أضحت متجاوزة بنص منطوق الخطاب الملكي السامي وتوجهاته في 09/03/2011، وحمل الموثق وزر حقائق مبنية للمجهول في محاكمة صريحة للنوايا حسب منطوق المادة 27، كما ألزم الموثق بالقيام بحكم المادة 37 بمهام لها رجالاتها ولا تمت بصلة لاختصاصه، وسمح بتعدد الاعتداء على اختصاصاتها الحصرية المسطر بقوة المادة 35 من القانون، وأجهز على الامتياز الفريد في التعيين بظهير ملكي الذي خرقت فيه مقتضيات المادة 30 من الورقة الدستورية لسنة 2011 التي تخول لملك البلاد حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، حيث نصت المادة 10على تعيين الموثق مع تحديد مقر عمله بقرار للوزير الأول وباقتراح من وزير العدل بعد إبداء رأي اللجنة 11 في الموضوع، تعيين تهيمن عليه الدولة بنسبة 6 أعضاء مقابل 3 أعضاء ممثلين للمهنة، لم يستسغ إلى لحظة كتابة هذه السطور التقدم الذي حققه المشرع بمقتضاه حتى نفتخر على الأقل معه بإنجاز العصر الذي لم يسبق له نظير، بعد أن فك الارتباط المعنوي لمؤسسة التوثيق العصري بجلالة الملك، وأضحى التعيين بقرار إداري -وليس حتى مرسوم- عكس ما هو متعارف عليه في الملكيات العريقة كمملكة بلجيكا وإسبانيا، مما مكن الحكم استنادا إلى ما سبق بكون هذا القانون بقلة حسناته وكثرة سيئاته مجرد قانون جنائي خاص بعموم موثقي المملكة.
ودفاعا عن تاريخ مهنة التوثيق العصري، وجغرافية اختصاصها، كمقدس لا يمكن العبث به أو المس بخصائصه، باعتباره أحد امتيازات مهنة التوثيق العصري بالمملكة وأهم ما يميزها عرفا وقانونا، وقد أكد السيد وزير العدل سابقا محمد أوجار وعلى غرار سابقيه في المؤتمر الأول للموثقين المنعقد بمراكش من 18 إلى 20 مارس 2019، وزكى طرحه السيد محمد عبد النباوي رئيس النيابة العامة مستحضرا توجيهات صاحب الجلالة محمد السادس في الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية حول السياسة العقارية للدولة في التنمية الاقتصادية، إلى جانب فعاليات وطنية ووفود دولية ممثلة للعديد من هيئات التوثيق وكل المؤسسات ذات الصلة، أنه يجب الارتقاء بمهنة التوثيق العصري وفق المستجدات التشريعية وتحديات الاقتصاد الرقمي مع مراعاة متطلبات مناخ الاقتصاد العالمي، والتزامات مؤسسة التوثيق العصري الدولية كضامن وحيد لتعزيز ثقة المستثمر الوطني والأجنبي، وربح رهان الأمن التعاقدي، والسلم الاجتماعي، وحفظ الحقوق والمراكز القانونية.
ويستشف مما سبق، خارطة طريق لمشروع تعديلي حقيقي، وليد التصورات الاستراتيجية لتحقيق الأمن التعاقدي المدعم للنموذج التنموي الجديد، محدد العلاقة فيه، المقاربة التشاركية بين السلطة العمومية وهيئة الموثقين، المبنية على سياسة الأبواب المفتوحة، وسياسة الإصغاء والانسجام، في حوار تفاعلي يحترم المكتسبات التاريخية للمهنة، ويراعي الإكراهات الآنية والمستقبلية لمؤسسة التوثيق العصري، ويوحي بوجوب الانكباب على توفير تأطير علمي عال، مؤهل للعنصر البشري، وممدد للاختصاص النوعي المستجيب لمتطلبات الاقتصاديات العالمية، ورهانات الاقتصاد الرقمي، ومستجدات التشريع والاجتهاد القضائي، والملبي لانتظارات المجلس الوطني لهيئة الموثقين.