العديد من النقاشات تطفو إلى السطح بين الفينة والأخرى لتأخذ حيزا مهما وكبيرا داخل صالات النقاشات العمومية، وربما تأخذ وقتا طويلا، رغم عدم أهميتها الكبيرة للمجتمع وللمواطن. نقاشات تسيطر بشكل لافت على المشهد السجالي عوض الانكباب على مواضيع وهموم كثيرة يعاني منها المواطن في معيشه اليومي.
النخبة السياسية في بلادنا العربية تثقن فن الهروب إلى الأمام وفن الإلهاء، فن الإلهاء يتقنه الكثيرون من النخب الحاكمة حين يتم مضايقة برامجهم وطموحاتهم السياسية، وخصوصا تلك الفاقدة للمصداقية ولروح الديمقراطية.
الوعود السياسية والحزبية لم تعد تغوي الكثيرين، الشيء الذي يفسر العزوف القوي عن الفعل السياسي، لا الإعلام بكل أطيافه، المكتوبة والمقروءة والمسموعة، يهتم بشكل جدي بمطالب المواطن البسيط الذي يسعى فقط للعيش بكرامة ولا سياسيون يتعاقبون على سدة القرار. حتى المثقف غاب قسريا وإراديا عن المشهد العام، فصار يزين القاعات الأدبية وصالونات الفكر وبرامج لا تغني ولا تسمن من جوع.
لكن ما يثير انتباهي أكثر، هو هذه المواضيع المقترحة من فينة لأخرى، لإلهاء الرأي العام عن ما هو أساسي وضروري. والأمثلة عديدة منها فتاوي دينية أحيانا، ومنها قرارات سياسية حكومية غير مدروسة وغير محسوبة العواقب وأمثلة أخرى، تسيل اللعاب والمداد بدون جدوى.
فهي باختصار تشبه نظرية الخنزير السياسية، والتي مفادها إشغال وإلهاء العامة عن المواضيع المهمة والضرورية والاهتمام بالأمور الثانوية. فلو تم اعتقال شخص ما، وهو بريء وتم إيداعه السجن، فسوف يحتج ويطالب ببراءته وحقوقه المهضومة ورد الاعتبار. وهو أمر منطقي أكيد، احتراما للقانون والحق الإنساني.
أما إذا وضع معه خنزير في نفس الغرفة، والخنزير معروف بنتانته ووسخه، فإنه سيتخلى عن مطالبه الأولى، وسيطالب فقط بإخراج الخنزير والتخلص من الأوساخ التي سببها. إذن الموضوع الرئيسي الآن هو إخراج الخنزير أما المطالب الأخرى فقد تم تأجيلها وربما نسيانها لأنها لم تعد من الأولويات اليوم، فالتخلص من الخنزير أصبح ضرورة ملحة ومستعجلة، لأن كل التفكير الآن مركز على المشكلة التي سببها الخنزير.
هذه هي إذن نظرية الخنزير السياسية، التي تهدف إلى تغيير المطالب أو تعطيلها أو تأجيلها، وذلك بخلق مشكلات وقضايا أحيانا تافهة وأحيانا وهمية لإشغال الرأي العام عن الحقائق وغلاء المعيشة وتدهور حال العائلات المعوزة والمقهورة.
قضايا كثيرة أثيرت فقط للهو والتفاهة، كان الهدف منها فقط أن يزيغ المواطن عن مطالبه المشروعة وينشغل بما هو مثار للنقاش اليوم رغم تفاهته. خصوصا وأننا اليوم، أمام سطو ثقافة القطيع، وغزو السوشيال ميديا بشكل مخيف.
في هذه النظرية، حين تقوم بإخراج الخنزير وتنظف الغرفة، سيمثل ذلك عملا كبيرا وجبارا في عين المعتقل، وسيحاول شكر السجان لما فعله من أجله، وربما يكون راضيا بما حصل ولن يواصل مطالبه الأساسية والتي تعتبر مصيرية، لأن قضية الخنزير كانت مؤقتة فقط وثانوية، لكن القضية الثانوية هي التي أصبحت الشغل الشاغل اليوم.
سيخرج الخنزير وتنظف الغرفة، ويعود الأمر كما كان، وينسى المعتقل ما كان يفكر فيه ويطالب به، كلنا مطالبون اليوم أن نخرج هذا الخنزير من عقولنا ومشاريعنا الثقافية والفكرية، ليظهر الجو نقيا ونواصل مطالبنا المشروعة في الكرامة والعيش الكريم.