الأمن التعاقدي وخطر تبييض الأموال
نظمت وزارة العدل “مديرية الشؤون الجنائية والعفو”، دورة تكوينية بشراكة مع المجلس الوطني لهيئة الموثقين بالمغرب يوم 6 يناير2023 بمدينة طنجة، وبحضور رؤساء وأعضاء المجالس الجهوية، بالإضافة إلى الموثقين المراقبين.
وبحضور فعلي لكل من مدير الشؤون الجنائية والعفو ورئيس المجلس الوطني للموثقين وأطر وفعاليات ذات خبرات وطنية ودولية، أغنت اللقاء بحمولتها العلمية والعملية بخصوص دور الموثق في منظومة مكافحة غسل الأموال ومكافحة الارهاب، في محاولة لتوحيد المفاهيم والاساليب.
واعتبارا لغنى روافد هذه الدورة التكوينية، ولثراء المداخلات والمناقشات المؤسسة لفهم تبييض الأموال كجريمة من جرائم القانون العام، عابرة للحدود الوطنية للدول، حديثة العهد بنص اتفاقية فيينا والأمم المتحدة لسنة 2000، تفشت بشكل رهيب محليا ودوليا حتى صارت عابرة للقارات كأخطر جرائم العصر الرقمي، تهدف إلى إضفاء الشرعية على أموال مجردة أصلا من كل مشروعية، اكتُسِبَت باستغلال ثغرات القانون وهفواته، كالفساد السياسي، والفساد المالي، والحصول على قروض دون ضمانات، والاحتيال وتزييف العملة، وكذا تجارة المخدرات أو البيع غير المرخص للأسلحة، مع إضافة الرشوة واستغلال النفوذ، والنتيجة المباشرة مخاطر متعددة تلحق بالكيان المالي والسياسي للدول، جعل واجب محاصرتَها الشغل الشاغل للدول والمجتمعات والمهن القانونية والقضائية، ومبعث قلق للمستهدفين في إطار مكافحتها للفساد بشكل عام.
ولما اتفقت الشرائع الدولية والوطنية-إلا ما استثني منها بظرف خاص- على خطورة جريمة تبييض الأموال ومدى نخرها لاقتصاديات الدول، وجب إعادة النظر في كلية مقاربة الأمن الإنساني والتنمية المستدامة وحماية حقوق الإنسان، وقد أضحت مقصدا تهدف الدول والمجتمع الدولي معا للوصول إليه، بغية حماية الكيان السياسي والمالي للدول، ناهيك عن تحصين أفرادها ضد التهديدات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وهو الأمر الذي جعل عنصر الأمن الاقتصادي والاجتماعي من بين المقاربات الحديثة التي يسعى المجتمع الدولي للحفاظ على توازنها، لما لها من تداعيات سلبية على اقتصاديات الدول المتقدمة والنامية، مما دفع إلى جدية التفكير في ترتيب الوقاية وتحديث آليات الكشف عن ظاهرة تبييض الأموال وسن ضابط المكافحة بحزم، بتعاون دولي ومحلي رغم اختلاف الأسلوب المؤسس على ما كشفته التجارب الدولية والدراسات المعمقة، والإمكانيات المتاحة لوقف أو تقليل حدة الآثار الوخيمة التي تسببها للاقتصاد والجانب الاجتماعي للدول، ناهيك عن التهديد غير المحسوب العواقب للأمن الإنساني كونيا.
ولا شك أن لجريمة غسل الأموال آليات متعددة لتنفيدها وتحقيق غاياتها كالمصارف البنكية، والشركات الاستثمارية، ومؤسسات التأمين، والتوظيف المتطور للتكنولوجيا، وتخطيط دهاء مجرمي الْيَاقَة البيضاء، وفي مقابل ذلك هيأت لها في إطار سياسات الوقاية والمراقبة والردع، تغليظ الجزاءات الجنائية، وإنشاء خلية الاستعلام المالي، وتسطير مسؤولية الأبناك عن الإخلال بالتزام مكافحة معضلة تبييض الأموال، زيادة على واجب الرقابة والتحقق من هوية العملاء والاحتفاظ بالوثائق والسجلات والاستعلام واليقظة والإفصاح والإخطار عن العمليات المشبوهة، مع تجنيد وتوظيف وتحسيس المهن الحرة ذات الصلة كالتوثيق العصري وإلزامها بواجب الإخطار بالشبهة المالية لدى المصالح المختصة، كل هذه المبادرات التي في حد ذاتها لم تخل من إكراهات سطرتها نفس القوانين التي تدفع عواقب الجريمة المنظمة من مهدها إلى مرحلة التنفيذ، كمبدإ السرية الملزم للأنظمة المصرفية والتزام السر المهني من طرف الموثق.
وانسجاما مع جهود المجتمع الدولي لمواجهة الإجرام المنظم، عمل المشرع المغربي على ملاءمة استراتيجية مجابهة ظاهرة جريمة تبييض الأموال القذرة بكل أساليبها ونشاطاتها وغاياتها، بخطورتها ودقتها، ومعطيات الواقع الآني، مستنبطا أشد الطرق حذرا، وأكثرها أمانا وسرية، استنادا إلى آليات قانونية كرستها الأجهزة الرئيسية للمنظمات الدولية الكبرى كمنظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الشرطة الجنائية الدولية ” الإنتربول” من خلال الاتفاقيات الدولية المبرمة والمؤتمرات الدولية التي عقدت في هذا الشأن، وكذا القرارات والتوصيات المتخذة لمعالجة سلبيات الظاهرة، منخرطا في تطوير سبل التعاون الأمني والقضائي والقانوني، موظفا خبرة العمل البنكي في متابعة واكتشاف العمليات المشبوهة وفق متطلبات المرحلة، ومنجزا لمشروع تحيين النصوص الجنائية للحد من آثار هذا الفعل الإجرامي، ومعدلا لقوانين الصفقات العمومية التي تعد مجالا لتدوير الأموال المشبوهة وإخفاء صبغتها غير الشرعية ومصدرها الأصلي بحثا عن أماكن آمنة يحميها القانون أمام متعاملين اقتصاديين غايتهم الربح فقط، في انتظار مشروع تعديلي لمهنة التوثيق العصري يستجيب لتحديات المرحلة بمهامها الرامية إلى تحصين الاقتصاد وربح رهان الأمن التعاقدي.
ومن نافلة القول التذكير بالحضور الدائم والدعم اللامشروط للمجلس الوطني لموثقي المغرب لكل قضايا المملكة التي تقوي دورها الدولي، وتعزز ثقة مؤسساتها في المحافل العالمية، مشيدا بدور الموثق العصري الذي فعّل بمهنية عالية اختصاصاته المهنية للتصدي لكل مظاهر التلاعب بالأموال، سواء تعلق الأمر بالنصب والتزوير، أو بالاستيلاء على عقارات الغير، أو غسل الأموال وتمويل الإرهاب، معلنا تجند مؤسسة التوثيق العصري لمحاربة كل الجرائم التي تمس سيادة المملكة في كيانها المالي وكل ما يمت بصلة لاقتصادها، كضامن معتمد لتوطيد أركان الأمن والاستقرار، وأقوى المتدخلين في عالم تداول المال والأعمال، وعيا بالدور المنوط بها لتنفيذ الالتزام بالتصريح بالاشتباه المنصوص عليه في قانون 43- 05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال، دون المساس بمبدإ السر المهني، وطبقا لمقتضيات المادة 29 من القانون المنظم لمهنة التوثيق العصري.
هذا وقد أكد رئيس المجلس الوطني أن انخراط موثقي المملكة المغربية إلى جانب الدولة والمجتمع واجب مهني في معالجة ظاهرة تبييض الأموال، لوقف نزيف تدفق الأموال غير المشروعة، ودعم ارتقاء المملكة في التصنيف السنوي الذي يصدر عن مؤشر “معهد بازل للحكامة”، بعدما حققت المملكة نجاحا ملحوظا برتبة 64 برصيد تنقيط بلغ 5,16 من أصل 10 مقارنة بنسخة العام الماضي، كما أكد أن الخط النضالي لتطويق آفة غسل الأموال يبدأ قبل كل شيء، بفهم سوابق ولواحق هذا النوع من الجرائم فهما عمليا شاملا وكاملا، وتحليل دقيق لكل معنى جديد بتبعاته الاقتصادية والاجتماعية، من طرف خبراء متمرسين في لقاءات علمية بأجندة محددة الزمن والبرامج والأهداف، ومختلف المتدخلين المشهود بخبرتهم وتمرسهم وشدة اطلاعهم، وعلى رأسهم مؤسسة التوثيق العصري التي تنتظر إصلاحا شاملا للقانون المنظم لها، يحافظ على المكتسبات التاريخية، ويلبي انتظارات ممتهنيها، حتى تتمكن من القيام بواجبها ودورها الريادي وعلى الوجه المطلوب وطنيا وعالميا، وقد سجلت نموذجا نوعيا لمبادرة انخراطها في الترافع عن القضايا الاقتصادية للمملكة التي تعتبر جريمة غسل الأموال احد ملفاتها الثقيلة، بهندسة اللقاء الدولي الذي نظّمه المجلس الوطني للموثقين سنة 2014 والذي خلص إلى توصيات مهمة تؤازر مواقف المملكة وطنيا وتدعمها دوليا، للحد من درجة المخاطر المرتبطة بظاهرة تبييض الأموال، بشكل يجعل العقد التوثيقي أداة لضمان ضبط دخول وخروج العملة وفق ما هو متعارف عليه من ضوابط دولية.