بين دولتين
لا أجد في الدول المتجاورة أقرب إلى بعضها بعضا، من دولتين جارتين قريبتين مثل المغرب والجزائر، وأكاد أجزم أنه لا يمكن التفريق بين الجزائري والمغربي؛ يتشابهان في كل شيء في البشرة واللباس والمأكل والعادات، ويلتقيان في كثير من الأمور في اللغة المشتركة الامازيغية والعربية واللكنة المعبر بها. وفي الدين والمذهب، في التاريخ المشترك ومناهضة الاحتلال.
لم تكن إلى عهد قريب الحدود كما هي عليه الآن بل كانت أرضا واحدة وعليها شعب واحد . فكثير من زعماء جبهة التحرير الجزائرية كان استقرارهم الدائم بمدينة وجدة وبركان والناظور وفجيج، وهذه المناطق انطلقت منها مخططات الثورة الجزائرية، ومازال منزل الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة شفاه الله موجودا بمدينة وجدة وقريبا من الحي الذي أقطن به، وفي المقابل نجد أن كثيرا من المغاربة استقروا بالجزائر وتبوأوا بعد استقلال الدولتين مناصب عليا بالبلدين، حتى أن المهتم والباحث في الشأن المغاربي لا يستطيع التفريق بين الجزائري والمغربي، وهذا يرجع لقوة الترابط بينهما؛ والمتمثل في رابطة الدم والمصاهرة وتطابق الأسماء العائلية.
أذكر وأنا بفرنسا التقيت بأحد الاخوة من الجزائر ودعاني إلى أن أرتشف معه فنجانا من القهوة في إحدى مقاهي المقاطعة السابعة بباريز، ونحن نتجاذب أطراف الحديث سألني عن أحوال البلد، فأجبته كل شيء على ما يرام، وسألني عن المدينة التي أنتمي اليها في الجزائر ، فابتسمت وقلت له: أنا من المغرب وبالضبط من مدينة وجدة، على بضع كلوميترات من مدينة مغنية الجزائرية، فلم يصدق باعتبار لكنتي تميل إلى لكنته فقال: خلتك جزائري الأصل والمنشأ، فأجبته: أفتخر بأن أكون كذلك، كما أفتخر بمغربيتي وزدت على ذلك وأفتخر أن أكون مغاربيا؛ هذا هو بيت القصيد في هذا الموضوع الشائك الذي استعصى على القادة في الدول المغاربية أن يجدوا له حلا؛ ونتسائل لماذا تفرقنا المصالح والسياسات؟
لماذا نغلق الحدود في وجه العائلات؟
لماذا نخنق اقتصادنا في الدول المغاربية؟
لماذا نمد أيدينا للآخرين بالورود، في حين نمدها بالشوك لبعضنا ؟
أليس حري بنا ان نبني صرح علاقتنا بالحب والتعاون ونؤسس لمصالحة لا غالب فيها ولا مغلوب، وأن نكون أمة واحدة !؟
ماذا نجني من قطيعة دامت سنوات؟
إلى متى يتحكم فينا الغرب؛ فيشتت قوتنا في الوقت الذي يسعى إلى تجميعها فيما بين دوله.
لا نحتاج من أجل إعادة العلاقة إلى مؤتمرات ولقاءات ولجان أو إلى وساطة دولية، بل فقط إلى مبادرة منبعها حسن النية، ورجلين حكيمين يسمعان لبعضهما بعضا، نحتاج في ذلك لكلمة طيبة بين القادة تذيب هذا الجليد، وتفتح الآفاق بين الدول المغاربية العظيمة، وبين دولتين أكثر الدول أخوة وتاريخا مشتركا.
فلا يعقل أن يلتقي وزراء الدولتين خارج حدودهم، فيتصافحون ويتعانقون ويبدون كثيرا من الود بينهم، ويلتقطون صورا للذكرى، في حين يحرم من ذلك الشعبان فلا مجال لهما كي يتعانقا، وأن وقفة على الحدود تنفطر لها القلوب وتدمع لها الأعين؛ وأنت تشاهد الابن يرى أمه ولا يستطيع معانقتها، والعم والخال والأخ وأخيه يلوحون لبعضهم بأيديهم من غير أن يقتربوا، يمنعهم حارس من هناك وحارس من هنا وخندق محفور وأسلاك شائكة ..
لو تأملنا قليلا كيف كان عليه آباؤنا وأجدادنا وهم يقتسمون الرغيف بينهم، فقد كانوا شركاء في كل شيء في الماء والهواء وما يخرج البلدين الطيبين من رحمهما.
كان والدي يحكي لي عن ابن عمي الشهيد في الثورة الجزائرية المسمى أحمد بوعزة من منطقة لحمر ولاية بشار، وعن كثير من رفاق السلاح وعن جدي وعمي من جيش التحرير الجزائري وعنه، وقد كان مكلفا بالتنسيق بين رجال المقاومة في المغرب وجبهة التحرير والثوار بالجزائر، وكيف كان يورد الأحزمة والسلاح ويصعد به إلى الجبل، وكيف نجى من انفجار قنبلة في حقل الألغام بخط موريس المشؤوم..
كان يسمي لي الأشياء والأماكن وأسماء الزعماء والحركيين
ممن كانوا إلى جانب الاستعمار الفرنسي، وكذلك الشأن بالنسبة للمقاومين المغاربة ونضالهم واستشاهدهم في سبيل الحرية والاستقلال، وكان رحمه الله يغضب حين يأتي على أسماء الخونة ممن باعوا الوطن أيام المحنة والشدة؛ وحين استقلال الدولتين تبوأ أبناؤهم مناصب وحصلوا على مأذونيات ومكاسب ..
قال:- حين قرب أجله- كان عملنا من أجل الوطن ومن أجل وحدة مغاربية ولم نبغ من وراء ذلك لا جزاء ولا شكورا، وأرجو أن أعانق أبناء عمومتي وأرضي هناك، وأن أزور قبر الجندي المجهول، وأترحم على الشهداء، وأسقي نخل واحاتي بفال قاسم وبلحمر وموغل، وأزور زاوية سيدي أحمد بن بوزيان بالقنادسة، فكن يا ابني مع السلام وانشره بين الناس سنابل، واعمل على أن تحب أبناء عمومتك في الجزائر.
مات والدي ولم يتحقق أمله، وبمجرد أن تم فتح الحدود سارعت إلى زيارة الجزائر؛ قطعت مئات الكلوميترات رأيت تلمسان تحدثت إلى أهلها ودخلت دورهم ووجدت نفسي وكأني بفاس ثقافة ولكنة، حتى أن حرف القاف والراء تخرج من أفواههم متشابهة في النطق، وزرت عين تموشنت وبلعباس ومستغانم، ولا فرق بينها وبين كثير من المدن المغربية، ووهران وساحلها بوصفر وعين الترك وأكلت سمكا “بالبيشري” وكأني بمدينة وجدة والسعيدية ورأس الماء
أقمت ثلاثة ايام * بباريكو* سابقا المحمدية حاليا وكأني بمدينة البرتقال ابركان، بفلاحتها وخضرتها ولباسهم الشركي،
ومررت على سعيدة ولخيثر والنعامة وبوقطيب ومشرية وعين الصفراء وبني ونيف ولقنادسة وبشار؛ الى ان وصلت بيت ابن عمي الشهيد احمد بوعزة بقرية لحمر بين بوكايس وموغل، مناطق لا تختلف عن فجيج وقصر السوق وورززات وكلميم وطرفاية.
وفي كل مكان كنت أذهب إليه أجد ريحا طيبا لوالدي عند من تبقى من رفاقه، وترحيبا كبيرا من أبناء عمومتي زرت منزل جدي وواحة نخله والمدرسة التي سميت باسم ابن عمي الشهيد أحمد بوعزة، تأسفت كثيرا لكوني لا أتحدث معهم بالأمازيغية، للتعريب الذي طالني، حاولت طيلة شهر من إقامتي بولاية بشار أن أتعلم منهم، لكن اللغة تحتاج إلى وقت أطول ومصاحبة دائمة وحرص على التعلم وإرادة قوية.
أذكر وأنا طفل صغير وقد انتقل بنا أبي إلى مدينة القنيطرة حيث اشترى مقهى ومطعما بها وكان يديرهما بشارع الأميرة لالة عائشة قبالة سينيما فنتازيو تسمى النخيل ؛ وكان يتوافد عليها من حين لآخر رجل طويل القامة حليق الوجه أنيق المظهر مهاب الجانب؛ وكان يجلس إلى أبي لساعات يتحدثان في أمور كثيرة عن أحوال الجزائر وعن الشهداء وجيش التحرير هنا وهناك، لم أكن اعرف من يكون هذا الرجل، وكثيرا ما كان يخرج من جيبه بعض الدريهمات ويضعها في جيبي مبتسما، وكنت أناديه بعمي ..
باع والدي محله التجاري وعدنا إلى مدينة وجدة ولم أر صديق والدي قط، الى ان رأيت صورته تنقلها وسائل الإعلام الدولية، إنه الزعيم الراحل بوضياف الرئيس الجزائري تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه إلى جانب الشهداء والصالحين؛ أذكر أن زوجتي عند وفاته أصيبت بأزمة حادة، نقلت على إثرها الى المستشفى الحسني بمدينة الناظور، وقد خلف اغتياله أثرا بليغا في نفوس كل المغاربة وصدمة كبرى،
وكنت أصرخ لماذا قتلوك يا عمي، وقد كنت مسالما وكانت يدك نظيفة وماضيك مشرفا؟
فعلا إنه تاريخ مشترك بين البلدين، لا يمكن أن يتحاشاه أو يتنكر له إلا جاحد أو فتان، ممن لا يحب أن يكون السلام والاستقرار بين شعبين أخوين.
ومن أجل تحقيق تقارب وتعايش، لابد من مصارحة وتجاوز اخطاء الماضي، وهذا ما أسعى اليه في إطار هيئة المغرب الكبير بلا حدود، والتي تم تأسيسها بتاريخ التاسع من نوفمبر 2011 ، من أجل إظهار حسن النية وإزالة ما كان عالقا في ذهن بعضهم حين كنا منخرطين في الهيئة الوطنية للمناطق الشرقية المغتصبة وكانت المطالبة باسترجاع الصحراء الشرقية منذ سنة 1965.
تغيرت الظروف وتم تجاوز المرحلة كما أرادها القادة هنا وهناك، وذاب الجليد الراسب في هذا الشأن بين البلدين؛ تفتق فكرنا من أجل غرس مرج أخضر بتأسيس هيئة المغرب الكبير بلا حدود يرأسها المستثمر سعيد عبد القادر الفجيجي القنصل الشرفي للكابون وأمينها العام الاستاذ علي التونسي. والهدف من إنشائها هو رفع شعار المغرب الكبير بلا حدود؛ ولا حدود بين الإخوة في الدول المغاربية كما كان ينادي به المغفور له جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله.
وحين أجرى معي المدير العام الجزائري لقناة أمل تيفي الفضائية الأستاذ الاعلامي هشام عبود حوارا، سألني قائلا : أنت جزائري الأصل مغربي النشأة والجنسية، كان جوابي أفتخر أن أكون جزائريا كما أفتخر بمغربيتي، فمن جهة أنا ابن الصحراء الشرقية حسب الطرح المغربي، وابن الجنوب الغربي من وجهة النظر الجزائرية، وأفتخر كذلك أن أكون تونسيا ومورتانيا وليبيا، فأنا أنتمي لكل هذه الدول وأفتخر بكوني مغاربيا وأمازيغيا.
وأنشد السلام ورفع الحدود كما كان ينادي به المغفور له جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه وتغمده بواسع رحمته، ونرجو أن تتحقق آمالنا في إيصال صوتنا إلى المسؤولين في الدول المغاربية، من أجل رفع الحدود وبناء وحدة تقوم على أسس التعاون الاقتصادي والانخراط في تحالف واتحاد قوي، على غرار ما تعرفه الدول الأروبية، التي برغم الحروب التي شهدتها دولها إلا ان الوعي بالتعايش السلمي فرض عليها أن تنصهر في اتحاد يقوي شوكتها ويرفع من مكانتها ويعزز من قدراتها في ميادين مختلفة كالبناء ومحاربة الفقر والبطالة وفي مجال الدفاع والتبادل الاقتصادي والفكري والخبرات و في كل الميادين؛ مع العلم ان لا شيء يربطهم، لا الدين ولا اللغة ولا التاريخ المشترك، لكنهم آمنوا بفكرة الحب والتعايش المؤديان الى الاستقرار والسلام ورغد العيش بين جميع مكونات شعوبها .
أما عنا فقد شحنوا ذاكرتنا بالحقد وزرعوا في أنفسنا سياسة التفرقة وأوهمونا بالزعامة؛ وكل منا يريد أن تكون له الريادة على المنطقة، فهل يعقل أن نمد الورد لغيرنا والشوك لبعضنا.
كم أضعنا من جهد ووقت وكلام لا طائل من ورائه، كم نصبنا من دسائس لبعضنا ، كم أجهضنا من فرصة لبناء مستقبل الشعوب، كم كنا سذجا والغرب يحركنا كعرائس الدمى، كم أنفقنا على الأسلحة وعلى المؤتمرات واستقطاب تحالفات غير مجدية.
أما آن الأوان لنقرأ تاريخنا، ونشد على أيدي بعضنا، حتى إذا ما رحلنا الى عالمنا الآخر والتحقنا بالرفيق الأعلى، تركنا للأجيال المقبلة أرضا خصبة ينعمون بها ويأكلون منها، وعالما جميلا يتنفسون فيه هواء نقيا، وينابيع صافية يشربون منها ماء عذبا. ولهم صرخة قصيدتي الزجلية تحت عنوان: صرخة مغاربي
*
فوقاش نَتْوَحْدُو..
ويَكْبَرْ عْقَلْنَا ..ونْرَشْدُو
وعلى يَدْ بَعْضْناَ ..نْشَدُّو
ولَهويتنا ولَلْقُرْآنْ نْعُودُو
ايْكََمَّرْ هْلالْنا ..
وليه نْرَصْدو
َنْزَولُ الَحْدودْ ..
ولًوْطَنّا الْمغاربي انْصَدُّو
نبني وانْعَلّيهْ ..
ويموت من غيضو لَعْدُو
والضّيمْ على شعوبنا انْحَدُّو
………….
عندنا من كل خير
وهَبْنا ربي ولينا مَدُّو
ذهب ..ونفط
وفوسفاط ..وشْعيرْ
ورجال ما يَتْعَدُّو
وجيش عظيم يَدُّو على زَنْدُو
هوال ..ما تْهَدُّو
يا المغاربي يا ولد بويا
الى طاح خوك سَنْدُو
ما تْشَمَّتْ فيه لَعْدُو
………..
من عْراكْنا واخْتلافاتْنا
لعديانْ شَطْحو كي الَقْرودْ
ورَقْصو ..على جراحاتنا
ونَشْدُو
……………..
وحْنَا هُمَا احْناَ
نبكي على الميت في لَحْدُو
…………….
فوقاشْ نَتْوَحْدُو
يكبر عقلنا ونرشدو
ولادنا ضاعو وتْشَرْدو
في لبحر ماتو …\
الغرب و صْحابو سَعْدو
غَرْقوهُمْ دوكْ الْعَدْيانْ
مَلايْكَةْ الرحمان عليهم شَهْدو
قال المجذوب …:
تْقَضى لَكْلامْ ..تْرَفْعَتْ لَقْلامْ
“وللّي حَرْثُو اجْمَلْ حَصْدو “
لَبْحَرْ على وَلْدَكْ سَدُّو
……….
افْهَمْني يا خويا لعزيز
واخْرَجْ بْرايَة ْالْحُبْ والسَّلامْ ..
نَتْوَحْدُو
…………………..
وأختم هذا الفصل تجليات من سيرتي ورجائي أن يقرأه القادة في دولنا المغاربية وأن يعملوا على تحقيق السلام والتعايش لشعوبنا التواقة لمعانقة غد أفضل، سائلا المولى عز وجل أن يلهم رؤساء دولنا إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وأن يرزقهم بطانة صالحة تعينهم على تحقيق الخير لمنطقتنا المغاربية.