الحية الرقطاء
لم تكن المرة الأولى التي يزور فيها المكان، تعود أن يأتي إلى هنا ليريح نفسه المتعبة، كان يحس بشيء جميل ينسيه ألام روحه المنهكة من سخط السنين، وعنف الحياة التي لم ترحم عظامه الصغيرة قبل الكبيرة. ربما أرادت له الدنيا أن يستسلم، لكنه قاوم الأوجاع ولا زال يقاوم، حتى يتخطى محنه التي لم تترك له متسعا من الوقت ليتنفس، هده هي الحياة التي لم يتمنى يوما أن يعيشها، ضربات متتالية وهو لم يتعدى بعد الثلاثين من عمره، لكنها الأقدار.
كان يحدث نفسه عن ماضي أراد نسيانه وحاضر لا يريده، لكن عيناه على مستقبل جديد، ربما يعيد البوصلة للعمل من جديد، وقد تقرع أجراس الأعياد في مدينة أحلامه التي خيم عليها السواد. يحدث نفسه ويبتسم رغم مرارة الحياة، يكابد الأيام التي لا ترحم ضيق تنفسه، لكنه يأبى إلا أن يواصل مسيرة الحلم في غد أفضل.
هناك على بحيرة الآمال، وبينما هو غارق في وحل التفكير، تظهر أمامه أنثى من زمان آخر، امرأة لم تعد موجودة في زمن اندثر فيه كل شيء جميل. كانت البلسم الذي أعاد له رحيق الحياة، وصار يتطلع لحياة سعيدة وهادئة. اعتبر نفسه محضوضا بها، أحبها بعشق غير مسبوق، وبادلته المشاعر أكثر مما كان يتوقع، فراهن على رفيقة درب مثالية.
كان فيلسوفا، يؤمن بالمبادئ والأخلاق أكثر من أي شيء آخر، ينظر إلى المجتمع والإنسانية وهي تنهار، فيتحسر على ضياع فرص العيش الكريم، أنهكه التفكير في الفقراء والمهمشين الذين يدفعون فاتورة كل شيء، إنها الفئة الغير المرغوب فيها اليوم، إضافة إلى الشرفاء والأوفياء، فلا مكان لهم اليوم في عالم يجيد أصحابه السباحة في الماء العكر، فإذا كنت نقيا عليك الإنسحاب من عالم لم يعد لك.
كان سعيدا فعلا، لهذه البدايات، سعيد بحياة أحس أنها خيطت من أجله، كل شيء في الطريق الصحيح، وهذا أقصى ما أراده من هذه الحياة، أن يبتسم بلا نهايات، أن يرافقه أحد في أزقة حياة لا يستسيغها كثيرا، لكنها مرغم على العيش فيها، مجتمع منافق بلا قيم ومظاهر خداعة وكاذبة.
كانت سنوات قليلة جدا ولا في الأحلام، رافقته الابتسامة والسعادة والأمل في الغد، وهو الفيلسوف الشاب المرهف الإحساس، يحلم بعالم إنساني أكثر مما هو عليه. لكنه توقع كل شيء في هذا المجتمع، وهو العالم بخباياه وتحولاته وطبقاته، لكنه لم يتوقع اللحظات الأخيرة في حلم صار مستحيلا، حلم اختار نهاية ليس كالنهايات، ضاعت البوصلة من جديد وعاد لنقطة الصفر.
عاد من حيث بدأ، هناك على ضفاف الآلام والوجع، لكن المرة الأخيرة في شيء ما مريحة قليلا، رغم قساوتها، إنها تضحية كبيرة أن تفهم النهايات، بعيدا عن العتاب ولا الدموع ولا النظرات الحزينة. فالقرار اتخذ من مدة طويلة، لكن الرحيل اختير له الوقت المناسب ليكون قاسيا جدا وصعبا، وحتى لا تستطيع أن تلتفت التفاتة أخيرة من شدة الوجع. نظر بعيدا وهو يعيد شريط الزمن ليشاهد عبره سنين العمر التي تآكلت بفعل قساوة الآخرين، وابتسم من شدة التعب وبعد حرب أفكار طاحنة أنهكت قواه، لا يستطع حتى رفع يديه ليقول وداعا.
حاول جمع أفكاره وقواه، لكنها خانته، كانت المرة الأخيرة من المحاولة لفهم ما يجري، لكنها المرة الأولى التي أحس فيها أن أكبر أمله في البداية كان ضعفا في الأساس، وعليه أن يثبت مجددا لنفسه، ولو لآخر مرة بأنه يستحق دائما حياة جديدة وعبورا مريحا نحو الأفضل.
قد يستسلم من التضحية بلا غاية، في زمن لا مجال للتضحية ولا للعتاب، زمن القطارات السريعة والمحطات الكثيرة والرحلات التي لا تتوقف، هكذا هم البشر اليوم. حاول أن يعيش هذه اللحظة الفارقة، ويبسطها بشكل لا تأكل ما أكلته محاولات كثيرة من عمره.
يعرف جيدا أن الشفاء لن يحدث بين ليلة وضحاها، فالفاجعة اكبر بكثير من مجرد حديث ينهي مشكلة قائمة، بل جرح غير طبيعي، صعب أن يلتئم، فالشفاء يأخذ وقتا، وقتا موجعا قليلا، أو موجعا كثيرا، إنه انكسار وربما شظاياه أعمق مما يتخيله. الشفاء يتطلب قوة، وهو لم يعد يملكها بفعل وجع السنين، بحاجة لصبر طويل لم يعد يعرفه، وإلى تسامح مع النفس ستفلت فيها من جنون الأيام الأليمة.
تساءل في حيرة من أمره وهو ينظر في الفراغ، كم من مرة سيكون ضحية لنفس الوجع، ابتسم رغم الانكسار ونظر إلى السماء فاطمئن قلبه، وأيقن أن هناك من هو أكبر من كل هذا، وان الزمن دوار ولا يرسو على ضفة أحد. حاول ترك التفكير في الماضي، وراح يجر خيبة الأمل من جديد، متسائلا عما تخبؤه له السنين …