أخبارالرئيسيةثقافة و فن
قصة قصيرة..قهوة و شاي كثير من الحب
بقلم/ محي الدين لوكيلي
كانت الساعة تشير إلى الثالثة و النصف صباحا حين أيقظتني أمي بصوتها الرخيم:
- نوض يا ولدي دبا يمشي عليك الكار.
نظرت إلى الساعة و أعدت النظر إلى وجهها، أردت أن أخبرها أن الوقت لا زال مبكرا و أن الحافلة لا تنطلق إلا بعد الرابعة و النصف صباحا لكنني استحييت. استحييت أن أفسد عليها سعادتها. كانت دائما تستمتع و هي تهتم بنا و لو أن آخر أبنائها قد تجاوز العشرين، استحييت أن أكسر خاطرها و هي التي لم تنم من الليل إلا قليلا كي أنام مطمئنا لا تساورني مخاوف التأخر عن موعد السفر و استحييت أيظا أن أبدد هذه الإبتسامة التي كانت تعلو محياها.
قمت و بخطوات متثاقلة مشيت نحو الحمام ناثرا على وجهي قطرات من ماء جبال زرهون المنعشة بينما عادت هي إلى المطبخ لإتمام طقوسها الصباحية. لم تمضي سوى لحظات قليلة حتى عمت نسمات قهوتها معطرة المنزل ، في الوقت التي فهمت من التكتكات التي تصل إلى أذني أن الفطور سيكون مزينا هذا الصباح ببيضتين لا زال أصفرهما جاحظا كعيون سمك السلمون. تعمدت أن أتأخر قليلا، كنت أود أن يأتيني صوتها مناديا معاتبا ، كنت أنتظر دعوتها للفطور فليس هناك ما هو أحلى من أن تبدأ يومك بدعوة لمائدة عشق عمره أكثر من ثلاثين سنة. لم يتأخر انتظاري كثيرا فقد وصلت دبدبات صوتها إلى مسامعي: - محي الدين، يا ولدي اسرع قد يفوتك موعد الحافلة.
في جانب من جنبات المنزل، كانت المائدة بكامل مستلزماتها. صحن متوسط به بيضتان زين سطحهما بقليل من الكامون و الملح، زيت زيتون، زيتون أسود أعدته بعناية و بكثير من الحنان، صينية يتوسطها براد شاي تحيط به أربعة كؤوس بيضاء لامعة و تفوح منه رائحة نعناع ارتوى من مياه سواقي زرهون العذبة و نصف خبزة ملفوفة في قماش أبيض مطرز بحرير بني خاطته أنامل إحدى صديقاتها بطرز فاسي متقن، و بطبيعة الحال، لا تحلو مائدة الإفطار الصباحية معها دون وجود كأسها الكبير المملوء بقهوة أتت حبيباتها من إحدى المدن الفرنسية إكراما لها و إعترافا بذوقها وولعها بشرب القهوة.
كل شيء كان بسيطا، لكنها لحظات لا يعرف الإنسان قيمتها إلا حينما يفقد القدرة على الحصول إليها، و كنت في تلك اللحظة مستعدا للتأخر عن موعد الحافلة، مستعدا لتأجيل السفر، بل مستعدا لفقدان فرصة العمل لكي أستمتع بتلك اللحظات كاملة غير منقوصة.
كطفل صغير جلست قبالتها، تركتها تكسر لي قطعة خبز تفوح برائحة حقول وادي خمان و البراري المحيطة بالمدينة، تناثر بخار من بين قطعتي الخبر مداعبا فتحتي أنفي . رائحة الخبز من هنا، رائحة النعناع من هناك ولوحة مرسومة في الصحن ، أبيض البيض مشكلا لأرضيتها و أصفره مزينا لوسطها و الكامون المائل للخضرة متناثرا فوقهما كأنما رشته ريشة رسام ياباني مولع بالهايكو. صبت لي الكأس الأول من الشاي، و مع القطعة الأولى من الخبز الممزوج بالبيض و الزيت البلدي و المكسر بحبة زيتون أسود أصبحت مملوكا للحظة و كأنني تحت تخدير خمرة صوفية.
سافرنا معا بين دروب القصص و الحكايا، من أخبار العائلة لذكريات الأيام الصعبة، و من الشكوى من جحود جارة أو صديقة إلى الثناء على قريبة أو رفيقة. كانت تنتقل من حديث إلى آخر و بين كل حديث و حديث كانت تنتهز الفرصة لتمرر رسالة أو طلب، كنت أستمع بإمعان ، لا أتدخل إلا بالقدر الذي يمكنها من الإستمرار. كنت أعبر عن إلتقاطي لإشارة من هنا و كنت أيضا ألعب لعبة البليد الذي لا يفهم بالغمزة وبالإشارة. لكن الأكيد أن تلك اللحظات كانت وحدها كافية ليستيقظ من أجلها الإنسان في الصباح الباكر.