في امتداح المقروء
بقلم/ الدكتور الحبيب الدائم ربي
حين فكرتْ جريدة ليبيراسيون الفرنسية، سنة 1985، في إفراد عدد خاص لـ”سؤال الكتابة”، هل كان طاقمها يتوقع أن تتفرق ردودُ الكتاب طرائق قددا؟ إنه لأمرٌ مُربك حقا، بل ومخيب للآمال، بالنسبة للقارئ الذي يريد الارتكان إلى رأي مُقنِع، ولو أن الرأي حُرٌّ، حول “لمَ يكتب الكاتب؟”. فلم يكن في الأربع مائة إجابة، المغطية للقارات الخمس، ما يخفف من “قلق السؤال”. لكن ألهذا الحد تتباين الدوافع إلى الكتابة، لدى ذويها، وينفتح أفق جدواها على مداه؟ حتى لكأن سؤال الكتابة هو سؤال الحياة ذاتها، بحيث يغدو البحث عن المعنى متمنعا، أحيانا، وبلا معنى. لكنه، مع ذلك، قد لا يخلو من حيرة وشاعرية. لربما لهذا السبب ارتأت الدكتورة العالية ماء العينين أن تدشن “رحلتها في متاهات القول” من هذه النقطة الخلافية بالذات. وهي بذلك لا تنوي مساءلة الكُتّاب، في مطلق الأحوال، وإنما كانت، فيما نظن، تسائل تجربتها، هي أيضا، كباحثة يستهويها الأدب والفن، فتخوض فيهما دون أن تعرف لماذا، ولا جُناح. إذ يكفيها أن تحيا بهما وفيهما “حيوات متجاورة”. إلا أن هذا لا ينفي عن الكتابة، أكانت موصوفة أم واصفة، الوعي بذاتها، وإن اختلفت التوسلات والاستراتيجيات. فإذا كان الأدب اشتغالا على اللغة والصوغ الجمالي فإن النقد معنيٌّ بالدلالة أكثر. لكنه سيكون من التجني اعتبار أيّ فعل نقدي مجردَ كيان ارتزاقي، وقولٌ على قول. وهو كذلك حين يصادر صوتَ النصوص لحسابه الخاص، وبدل أن يستنطق النصوص يتكلم نيابة عنها بنبرة متعالية قد تطمس معالمها ما لم تخنقها. ومن فرط مفارقته قد يجنح إلى التبرير والإسقاط، ما لم نقل الشطط. فبعضُ النقد للنصوص قتّال. بيد أن هناك نقودا من شأنها إنطاق النصوص وحفزها على البوح بمضمراتها. نقودا تضارع الإبداع وتشاكله. ونحسب أن القراءات التي تقترحها الدكتورة العالية ماء العينين، في هذا الكتاب، تدخل في هذا المنحى البارتي(نسبة إلى رولان بارت) الذي يعتبر النصوص، المُحاوَرَة، صديقة لا جُثثا قابلة للاعتياش.. فالكاتبة تبدو متحررة من قبضة المتن الواحد والمنهج الوحيد. والتحرر هنا لا يُجرّد رؤيتها من الانسجام الغائي. فهي لا ترتهن إلا بما يجعل من التلقي إنصاتا وتبصرة. إنه لديها فن وأسلوب في الكتابة. والمتن المقروء عند الأستاذة ماء العينين وإن كان متوناً شتى فإن المنهج جمعٌ محكومٌ بما يتولد من النصوص ويحفزها على ما سماه ساندرس بيرس “السميوزيس”، أي سيرورة إنتاج الدلالة المحايثة. لا ما يصادر على مطلوب فيدخل الضيم على أغلبها. ومعناه أن الكاتبة فتحت لمفردات العمل على تباين أجناسها (نقد، رواية، قصة قصيرة، قصيدة…) مسارات أخرى ممكنة يتداخل فيها الفهم بالتفسير والكتابة بالتجربة. فالقراءات منجّمة ولكل قراءة تنزيل وأسباب ورود. إنها إذن،رحلة “في متاهات القول” تتخللها وقفات عند شخوص ونصوص: فهذا، مثلا، عبد الفتاح كيليطو المفتون بـ”بالليالي” و”المقامات” و”اللزوميات” وكتب التراث، وتلك فاطمة المرنيسي المفككة للأنساق الأبيسية وقيم الاستعباد والحريم، وكما يحضر محمد شكري في عزلته القسرية يطل عبد اللطيف اللعبي من تجاعيد القصائد والحياة. وفي الممشى روائيون وقصاصون وشعراء تعددت تجاربهم والأجيال (واسيني الأعرج، يوسف فاضل، زهور كرام، عائشة البصري، لطيفة باقا، ياسين عدنان، عبد اللطيف الوراري، زهرة رميج، كريم زهير، محمد بن ميلود، عبد العزيز العبدي…). فمنهم من شاع اسمه بين القراء ومنهم من لم يحظَ بما يستحق لاعتبارات لا صلة لها بالإبداع. لكنه حاضر مادام قد استطابته ذائقة الأستاذة العالية، وحدسها لا يخطئ، وهي تقرأه وتقاسم قراءها وقراءه لذة ما قرأتْ. ولها في ذلك هوىً يخالف ما ذهب إليه سيغموند فرويد من كون ” العين لا ترى العالم وترى ذاتها في آن”، مادامت تحاكي في قراءاتها، طقوس أبي نواس في الشرب حين قال “ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر”. إنها تقرأ وتحكي سيرة قراءتها. وهذا التلبس بين محفل القراءة والكتابة، في مشيرات لها صلة بضمير الأنا والتماهي والالتذاذ والحلول شبه الصوفي، قد يضفي على مقاربات الأستاذة ماء العينين تكتيلا (من الكتلة) يتصادى فيه صوت الإنتاج بصوت التلقي (بالمفرد والتثنية والجمع). ونحن حين نشاركها قراءة ما تنتقيه لنا فإننا نقرأها هي كذلك، وفق منظورها هي لا من خلال منظومتنا المرجعية الجاهزة وحسب. ولئن كنا قد سئمنا من القراءات الاستعراضية التي تحشر في مداخلها ترسانة ضخمة من المصطلحات والمفاهيم ما يلبث أن يتكشف قصورها التطبيقي، فإن الأستاذة العالية وهي تقتحم النصوص رأسا، قد تبدو، في الأول، كما لو أنها تسعى إلى الوغى من دون سلاح. وتلك قوتها. لكنها سرعان ما نجدها توظف أجهزتها النظرية، بكفاءة، دونما الحاجة إلى إعلانها، بل أكثر من ذلك فإنها في إحالاتها غير معنية بقيمة القائل، مَهْما علا شأنه، وإنما برجاحة القول مَهْما دنت قيمة صاحبه التداولية. وفي هذا وذاك قدر كبير من الإمتاع والفائدة، سيجنيهما قارئ هذا العمل الماتع والمفيد بكل تأكيد.