أرواح ميتة
قصة قصيرة: بقلم عبدالله العبادي
كان ينظر إلى المقبرة، وهو جالس على حافة الهضبة، لا ينظر في شيء محدد، بل في فراغ رهيب، يحملق هنا وهناك، بعينين متعبتين، ونظرات شاحبة، يحاور داخله الموجوع، كل شيء يتصارع ويتسارع في أعماقه، يساءل نفسه بإلحاح وبنفس الأسئلة التي تراوده، عن حال الناس وحال الدنيا وكيف ساءت الأمور لهذا الحد.
وبينما هو تائه في عالمه الخاص، والذي لا يفارقه دائما، وسط كم هائل من الفوضى التي لا تنتهي، اقترب منه عجوز حكيم، وجلس بالقرب منه، وأخذ يحدق في عينيه، دون كلام، ثم قال له وبلا مقدمات، لا فرق بينك بني وبين أولئك وسط القبور، فقط هم تحت التراب وأنت تمشي على رجليك، فأنت ميت من الداخل، تنهد جيدا، لكن لم يجد الكلمات ليجيبه. وقبل أن ينهض من مكانه قال له الحكيم، لن تجد غيرها، ولن يأتيك أحد مثلها أبدا، لم تكن فترة فقط في حياتك بل هي كل حياتك، فروحها تسكنك، وأنت ميت بدونها.
كان بوده أن يدردش مع الحكيم قليلا، وهو الفيلسوف الشاب المحب للجدال، ليحكي له، ما فعله الزمن بروحه اليافعة، حاول أن يبدأ الحديث لكنه لا يقوى على ذلك، فالصمت صار ملاذه الآمن. فهناك أناس تحتاج للحديث، تحتاج لكلمات طيبة في زمن الخذلان، زمن اللارحمة، وهناك من حياتهم توقفت تماما، أناس شبه ميتة، عبارة عن أجساد تتحرك بلا روح، هائمة في عالم ليس لها.
البعض وربما الكثير يعتقد دوما أنه الوحيد الذي يعاني في صمت، فهناك قلوب وأرواح تحطمت وهي بحاجة لمن يسال عنها ويرممها، مرايا تكسرت، ما عاد لها منظر ولا شكل، فقط بقايا وشظايا متطايرة هنا وهناك، لذلك ارحموا دوما نفوسا تعلقت بكم وتنتظر منكم ولو كلمة تداوي بها شقاء الأيام المرة.
حين تنطفئ الشموع، ما عاد للنور وجود، ويعم الظلام ويسود صوت السواد الهالك، فتتحرك الذاكرة في نبش الأحداث واللحظات السيئة، شريط الأوجاع يمر بشكله البطيء المتعب، وسط هدا الهدوء الذي يسود المكان، لا مجال لوقف المخيلة، ولا أمل في تبديل الشريط، هكذا هي حياته.
نمضي ونعيش الحياة والواقع بكل تفاصيله، ألوانه وتقلباته، نقاسي آلاما وأحزانا لم نزرعها، يلبسنا الزمن أثوب اليأس ويسوقنا كما يشاء، حتى صرنا لا نفكر أو نسعى للفهم، تراودنا أفكار كثيرة، فأنا لا أعاتب الزمن ولا الأقدار لكني مستاء من واقع الحال.
تسير الحياة أحيانا بسرعة البرق وأحيانا بثواني بطيئة وحزينة، وأنا هنا أكابر ثقل هذه الأرض، وأحيانا أتساءل من منا يحمل الآخر، أنا أم الأرض؟
هكذا هي الحياة، أناس تأتي وأناس ترحل، لكن بأشكال وطرق متعددة في المجيء والرحيل، تضيق بالبعض وتضحك لآخرين، لكنها لا تدوم على حالها. فالزمن لا يستقر على منطق أبدا، تحابوا وانشروا المحبة والسلام، واعتذروا إن أسأتم للآخرين. كونوا أوفياء وحلقوا للأعلى، فالأسفل امتلأ بالحثالة.
أصبحنا نخاف النهايات أكثر من البدايات، نخشى ختام الأشياء، ترعبنا الفكرة، وأحيانا نتجنب حتى التفكير فيها، لم يعد لنا وفاء فيما نملك ولا نسخر أي جهد للحفاظ عليه. بتنا لا نقدر قيمة الأشياء في الحياة، ولا نضحي من اجل مبادئ ولا قيم، نفكر في كل شيء جميل لكننا نتعامل بالعكس تماما. مرعبة إذن، هي النهايات، قد تحطم كل شيء منطقي وراقي، وهذا أقسى ما قد يحدث ويعيشه الأوفياء.