هذا المثل الفرنسي المستخلص مما يمكن اعتباره إحدى القواعد الأساسية للحكم ، يقضي بأن تتوفر في الذين يؤول اليهم تدبير الشؤون العامة للدولة ، القدرة الفكرية على استشراف الأفق المستقبلية ليقرروا على أساسها ما يجب القيام به حيال القضايا والمشاكل التي تواجه مجتمعاتهم ودولهم . وتقضي هذه القاعدة أيضا بأن تكون لهم القدرة على توقع ما يمكن أن يحدث انطلاقا من القرارات التي يجب اتخاذها لمواجهة المواقف الدقيقة والخطيرة .
وانطلاقا من هذه القاعدة سأكون قاسيا فيما سأقدمه من آراء لأرد على الذين يغالون في تمجيد من يستحق ومن لا يستحق التمجيد ، وهم يتحدثون عن بعض القادة العرب الذين تعاقبوا على الحكم في فترة من أدق فترات التاريخ الحديث للأمة العربية ٠
وليس ببعيد عنا ما حدث خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، ابتداء من حرب سنة 1967 بالمشرق العربي ، إلى حرب الخليج في التسعينات وما سجل فيهما التاريخ من أحداث يمكن وصفها بالكارثة بالنسبة للعالم العربي الذي ما يزال يعاني من مضاعفاتها وعواقبها . وإنني أتعمد هنا إغفال الصراع المرير الذي تعرفه منطقة المغرب العربي منذ سنة 1975 ، وما خلفته من مآسي وما أضاعته من فرص اللقاء مع التاريخ من أجل البناء والتشييد عوض الهدم والتشتيت.
سأقتصر الحديث عن الرئيسين جمال عبد الناصر وصدام حسين مدفوعا بما كتبه الصحفي المخضرم الصديق عبد الله العمراني رحمه الله، الذي يمكن اعتباره شاهدا على التاريخ المعاصر.فلقد قدم نبذة عن حياة الرئيس صدام حسين بمناسبة عيد ميلاده وما ساد خلال حكمه من أحداث كرئيس للعراق التي تعد من أهم الدول العربية لموقعهاالاستراتيجي ولثروتها البترولية. ولقد أثار فضولي ما ذكره الاستاذ العمراني من أن هناك من يعتبر الرئيس صدام حسين من الأبطال العرب ومن يضفي عليه صفات التمجيد ، بالرغم مما تسببت فيه سياساته سواء في مواجهة إيران أو في تصرفه إزاء الكويت من عواقب وخيمة على بلاده وعلى العالم العربي ككل .
على هامش ذكرى ميلاد الرئيس صدام حسين
المجد والخلود لا يسجل إلا لمن أحسن قيادة الأمم
Gouverner c’est prévoir
إن ما ارتكبه صدام حسين من خرق للقوانين الدولية باحتلاله الكويت ، بحكم كون هذا البلد عضوا في الأمم المتحدة وفي عدد من المنظمات الدولية والإقليمية ، لا يعادله في عواقبه ومضاعفاته إلا ما كان قد ارتكبه الرئيس جمال عبد الناصر من خطإ تاريخي لم يقرأ له حساب ، لأنه لم يقدر لا مدى قوة العدو الذي غامر بمواجهته ، ولا بما يتمتع به من سند على صعيد العالم الغربي وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن تخفي التزامها بأمن إسرائيل .
ويسجل التاريخ للملك الراحل الحسن الثاني سعيه لمحاولة التأثير على الرئيسين العربيين لكي يتراجعا عن مواقفهما في الوقت المناسب ، علما منه رحمه الله بما قد يكون لما أقدما عليه من مغامرة كان من المؤكد أن تسفر عن عواقب وخيمة . حاول العاهل المغربي مع الرئيس المصري رفع الحصار على العقبة تحسبا لما يمكن أن تسفرعنه محاصرة إسرائيل من نشوب حرب لم تكن مصر مؤهلة لها عسكريا. وحاول أيضا مع الرئيس العراقي أن يتراجع عن احتلال الكويث فلم يجد تجاوبا يحول دون تعرض العراق لهزيمة كان متأكدا من وقوعها .
كان مسعى الملك الحسن الثاني لرفع الحصار عن العقبة قد تم بصفة سرية . ولقد تولى السفير المغربي في القاهرة المرحوم المهدي زنطار نقل الرسائل المتبادلة يدا بيد بين العاهل المغربي والرئيس المصري حتى لا تعلم إسرائيل ما يجري في الخفاء . ولقد حكى لي شخصيا المرحوم زنطار أطوار المسعى الملكي التي لم تنجح والتي كان آخرها طلب الرئيس جمال عبد الناصر، مقابل رفع الحصار الحصول على تعهد من شاه إيران بامتناع إيران عن تزويد إسرئيل بالبترول . ولقد توجه المبعوث الملكي الى مدينة نيس بفرنسا حيث كان الشاه في عطلة فرفض الاستجابة لطلب مصر، وقال لمبعوث الملك بالحرف ،كما حكى لي المرحوم زنطار : ” يريد عبد الناصر أن أنقذه ، فلن أفعل ذلك “. والظاهر ان لهجة هذا الرفض ترجع الى العداء الذي كان مستحكما في العلاقات المصرية الإيرانية ولكون علاقة الرئيس عبد الناصر مع الشاه كانت في أسوإ حالتها .
لقد كان المرحوم الحسن الثاني بحدسه السياسي وبحنكته الدبلوماسية ، وربما بما كان يتوفر عليه من معلومات قد أدرك عواقب محاصرة إسرائيل في خليج العقبة ، اضافة الى كونه رحمه الله يعرف مدى تعهد الولايات المتحدة بضمان أمن إسرائيل ، وهو تعهد من المفروض أن يذهب الى حد مساندة إسرائيل حربيا ، وهذا ما حصل بالفعل سنة ١٩٧٣ في سوريا ، كما حكى لي شخصيا المرحوم الجنرال الصفريوي قائد القوات المغربية التي حاربت في الجولان بسوريا ض.
لم تسفر مساعي الحسن الثاني ولم يرفع الحصار ، وحدث ما حدث كما يعلم الجميع ، فكان ذلك بداية انهيار العالم العربي ، وبالتالي الدخول في دوامة الأزمات التي تعاقبت على مر السنين والأحقاب .
ويقفز بنا التاريخ من سنة 1967وما خلفته من جروح لم تندمل ، إلى سنة 1989وهي السنة التي أقدم فيها ، أو بالأحرى تجرأ خلالها الرئيس صدام حسين على احتلال الكويث في عز فصل الصيف حيث كان أغلب قادتها في عطلة خارج بلدهم . وتأتي مساعي الحسن الثاني بصفة علنية هذه المرة ٠ فلقد وجه رحمه الله نداء الى الرئيس العراقي من على منبر البرلمان المغربي وهو يفتتح دورته التشريعية في اكتوبر1989، يحثه على التراجع عن احتلال الكويث فلم يستجب . والذين عاشوا تلك الأحداث ما يزال يرن في آذانهم صدى ذلك النداء الذى كرر فيه ثلاث مرات عبار ته التي قال فيها رحمه الله ” أناشدك الله يا صدام اسحب قواتك من الكويث ” .
كان جلالة الحسن الثاني قد أدرك خطورة استيلاء العراق على الكويث. لما قد يفتحه من آفاق لن تكون مقبولة من أي أحد . اذ سيؤدي الى بسط سيطرة العراق على منابع البترول في منطقة الخليج لضعف دولها عسكريا أمام العراق ، وهو أمر لم يكن لتقبله الولايات المتحدة ولا الدول الغربية. ولقد كانت واشنطن قد ذهبت في تحذيرها للعراق الى حد نشرمعلومات وافية عن الوسائل التي ستستعملها لإخراج القوات العراقية من الكويث ، أوبالاحرى لسحقها كما حدث بالفعل . لا زلت أتذكر أن مجلة (لوبوان ) الفرنسيةالمعروفة بجديتها كانت قد نشرت تفاصيل عن الأسلحة والمعدات التي تعتزم الولايات المتحدة استعمالها ضد العراق ، كان من بينها الطائرة ( الشبح ) الحديثة الصنع أنذاك ، إضافة الى تطبيق خطة جهنمية تقضي بتحطيم مصادرالطاقة في العراق ، وبالتالي شل كل حركة عسكرية أو مدنية . ولقد تصرفت القيادة العراقية بشكل يبعث على الاستغراب ، وكأن رجالها لا يطلعون على ما ينشر ولا يدركون ما حدث في العالم من تطور في المجالات العسكرية ، ولايقدرون عوافب ومضاعفات إصرارهم على احتلال الكويث
إن ما كتبته عن سلوك القيادة المصرية وعن تصرف القيادة العراقية لايستهدف مطلقا الطعن في القيادتين ولا تبريرما فعله الأعداء بالعرب ، بل قصدي هو التنبيه إلى أن الرجلين اللذين ما فتئ كثير من المواطنين العرب يواصلون تمجيدهم لا يستحقون ذلك تاريخيا ، لما ارتكباه من أخطاء في ممارسة الحكم في بلدهم وبالنسبة للعالم العربي ، وما أسفر عن ذلك من مضاعفات وعواقب وخيمة في فترة دقيقة من تاريخ الأمة العربية
وبعد ، هل كان من رجاحة العقل ومن سلامة التفكير أن نحكم على المخطئين من القادة العرب بقطع النظر عن مرجعياتهم ، بأنهم كانوا ضحية التآمر، ونحن نعلم والكل يعلم كذلك أنهم كانوا يواجهون عدوا بل أعداء يتربصو ن الدوائر بأمتنا العربية ، فكان عليهم أن يكونوا في مستوى المواجهة حتى يستحقون التمجيد الذي يجب أن يقتصر على من أحسن التدبير والقيادة ؟٠