كتبه/ علاء بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فبين مصر والسودان أواصر وروابط قوية تضرب بجذورها في عمق التاريخ؛ إذ يربطهما نهر النيل بمصير واحد، فهو شريان الحياة فيهما، كما تجمعهما الملاحة في البحر الأحمر وتأمينها.
وتعد قضايا أمن السودان أمنًا قوميًّا لمصر، كما يعد أمن مصر أمنًا قوميًّا للسودان، وفي العصر الحديث عمد “محمد علي باشا”، وهو يؤسس دولته الحديثة إلى مدِّ إدارته إلى جنوب مصر وإلى السودان.
وقد تطورت السودان تطورًا اقتصاديًّا كبيرًا في ظل الإدارة المصرية، حيث قسمت إلى مديريات، وتم إنشاء مدينة الخرطوم، والتي بدأت ببناء قرية عند التقاء النيلين: الأبيض والنيل الأزرق؛ لتكون مقرًّا للحكمدار الذي بيده سلطة البلاد، كما تأسست أيضًا وقتها مدينة (كسلا).
ورغم ما فرض على مصر من القيود بعد عام 1840 أضعفت من جهودها الإصلاحية في السودان، فقد شهد عهد الخديوي إسماعيل نهضة اقتصادية في السودان؛ إذ كان إسماعيل يدرك أهمية السودان لمصر، ويدرك أهمية الوصول إلى منابع النيل وتأمينها؛ لذا ضمت الإدارة المصرية مناطق جديدة، منها مناطق مطلة على البحر الأحمر، ومنها مناطق تمتد داخل منابع النيل الاستوائية.
وفي أعقاب قيام حركة المهدي وثورته وسقوط الخرطوم تحت سيطرته تم إخلاء السودان، لكن إنجلترا -وكانت وقتها تفرض حمايتها على مصر- نجحت في العودة إلى السودان والقضاء على حركة المهدي فيها، وتم في يناير 1899م وضع نظام للحكم الثنائي للسودان يضم مصر وإنجلترا عُرِف تاريخيًّا: بـ”اتفاق الحكم الثنائي”.
وبعد قيام الملكية في مصر أصبح ملك مصر ملكًا على مصر والسودان، واستمر الأمر على ذلك حتى قيام ثورة يوليو 1952م، وخلال مفاوضات الجلاء بين ضباط ثورة يوليو وإنجلترا في عام 1953 تم اتفاق الطرفين على تقرير المصير للسودان كوحدة واحدة لا تتجزأ، وذلك بعد فترة انتقالية يتم خلالها تصفية الإدارة الثنائية للسودان، ويتم فيها سحب القوات المصرية والبريطانية، وانتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور للسودان؛ على أن تحترم مصر وبريطانيا ما تقرره الجمعية التأسيسية، وأن للسودان الارتباط بمصر بأي صورة ترتضيها أو تنفرد بالاستقلال التام.
وفي ديسمبر 1955م أعلن مجلس النواب السوداني قراره باستقلال السودان التام دون حاجة لإجراء استفتاء على تقرير المصير، وأعلن بالفعل في أول يناير 1956م استقلال دولة السودان، وأعلنت حكومة مصر اعترافها رسميًّا بالاستقلال، وتم قبول السودان المستقل في جامعة الدول العربية وفي الأمم المتحدة.
الاضطراب السياسي في السودان:
عانى السودان التفكك وعدم الاستقرار السياسي، وتعرض لكثيرٍ من الأزمات الاقتصادية، بحكم اتساع مساحته وتنوع طوائفه، واختلاف ثقافاته، مع التنازع الدائم على السلطة، حيث تعاقبت على الحكم حكومات مدنية وعسكرية لم تنجح بشكل كامل في انتشال السودان من أزماته التي تتراكم من بعد الاستقلال إلى الآن، وإن ظل الحكم العسكري هو الأكثر تواجدا في السلطة.
- في يناير 1956م تشكَّلت أول وزارة برلمانية برئاسة إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي.
- وفي يوليو 1956 تم حجب الثقة عنها، وانتخب (عبد الله خليل) السكرتير العام لحزب الأمة رئيسًا للوزراء.
- وخلال عامين من الخلافات داخل الائتلاف الحكومي تعرض فيها السودان لتدهور اقتصادي وتفكك سياسي؛ قام الفريق (إبراهيم عبود) بالاستيلاء على الحكم في نوفمبر 1958م، حيث قام بحلِّ الأحزاب السياسية وعيَّن نفسه حاكمًا للسودان.
- وفي أكتوبر 1964م قامت ثورة شعبية غير دموية، وبعد مظاهرات وأعمال شغب وإضراب عام غادر إبراهيم عبود الحكم، وتم الاتفاق بعد مفاوضات على تشكيل حكومة انتقالية برئاسة سر الختم خليفة.
- وفي ربيع 1965م تمَّ تشكيل حكومة ائتلافية من حزبي الأمة والحزب الاتحادي، برئاسة محمد أحمد المحجوب، ولكن هذه الحكومة سحبت منها الثقة في يوليو 1966م، وتم تشكيل حكومة جديدة برئاسة صادق المهدي رئيس حزب الأمة، وبعد سحب الثقة منها هي أيضا في مايو 1967م حلَّت محلها وزارة المحجوب.
- ثم في مايو 1969م، قام العقيد جعفر النميري بالاستيلاء على الحكم.
تبنى النميري الاتجاه الاشتراكي لتحقيق إصلاح اقتصادي واجتماعي؛ فاحتكرت الدولة السلع، وقيَّد القطاع الخاص، وصدر قانون للحراسة العامة؛ فصودرت شركات وأُممت البنوك. - وبعد استفتاء شعبي تم اختيار النميري رئيسًا للسودان في أكتوبر 1971م، وفي مواجهة التمرد في جنوب السودان تم بعد مفاوضات توقيع اتفاقية أديس أبابا، والتصديق عليها؛ مما ساهم في رفع شعبية النميري، وتم وضع دستور دائم للبلاد في مايو 1973م، ولكن النميري عاد ليخفف من تدخل الدولة في الاقتصاد، بتشجيع رأس المال الخاص، وتشجيع الاستثمار؛ مما ساهم في جذب استثمارات عربية خليجية، وبدأت عمليات للكشف عن البترول؛ خاصة في جنوب غرب السودان.
- وفي عام 1984م أعلنت الأحكام العرفية، وتعرَّضت إثيوبيا والسودان لجفاف عظيم، وقامت المظاهرات المعارضة لاستبداد النميري بالحكم، وشهدت الخرطوم إضرابًا عامًّا؛ فأعلن الفريق عبد الرحمن سوار الدهب القائد العام ووزير الدفاع في إبريل 1985م استلام الجيش للسلطة، وتم تعيين حكومة مدنية مؤقتة خلال فترة انتقالية، وبعد انتخابات تم تشكيل حكومة ائتلافية بزعامة صادق المهدي في منتصف مايو 1985م -رئيس حزب الأمة- عانت من نزاعات حزبية وطائفية مع تدهور في أحوال البلاد، فقام العميد عمر البشير بانقلابٍ أطاح بالحكومة في يونيو1989م، وتم تشكيل حكومة في أكتوبر1989، وتم تعيين مجلس وطني انتقالي.
- وفي 1995 تم إنشاء مجلس شعبي منتخب حَلَّ محل المجلس الوطني الانتقالي، وبعد انتخابات في مارس 1996 صار البشير رئيسًا للبلاد.
- وفي ديسمبر 1998م سمح بالتعددية الحزبية، ورغم تدفق البترول والاستثمارات الخليجية؛ فقد عانى السودان من عزلة وعقوبات دولية بسبب علاقات البشير لفترة بالمجاهدين الأفغان، وأسلوب معالجته لحركات التمرد في السودان، وبعد استفتاء في جنوب السودان مطلع عام 2010 تم إعلان انفصال جنوب السودان وقبول حكومة السودان لذلك.
أزمة ما بعد إسقاط البشير:
في ديسمبر 2018م قامت تظاهرات في السودان تتزعمها معارضة مطالبة بإسقاط نظام البشير بعد 30 عامًا أمضاها في الحكم، وإقامة حكومة مدنية، بعد ما شهدته السودان من ارتفاع الأسعار والتضخم وزيادة الضرائب، ورفع الدعم عن المحروقات، وارتفاع الدَّين الخارجي إلى 58 مليار دولار. - وفي إبريل 2019 أعلن وزير الدفاع والقائد العام للجيش عزل البشير، وتعطيل الدستور، وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، وتكوين مجلس عسكري انتقالي لمدة عامين.
وفي اليوم التالي أعلن عن استقالة وزير الدفاع، واختيار الفريق عبد الفتاح البرهان رئيسًا لمجلس السيادة؛ لكونه شخصية معتدلة مستقلة، ولا تنتمي لتنظيم سياسي، وهو مقبول نسبيًّا من الجميع، وتم اختيار الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد “قوات الردع السريع” نائبًا للبرهان، وتم الاتفاق على تقسيم السلطة بين الجيش والمدنيين لفترة انتقالية ثلاث سنوات. - أعلن في نفس الشهر عن تشكيل حكومة كفاءات مدنية مستقلة برئاسة “عبد الله حمدوك” تتولى إدارة الأمور، مهمتها: إيقاف الحروب الدائرة، وتوفير الاحتياجات اليومية، وإعادة هيكلة الدولة والنهوض بالاقتصاد في مواجهة العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة على السودان لمدة عقدين، ومعالجة أمر الدَّين الخارجي، ولكن بعد مفاوضات مع المعارضة وباقي الأطراف الأخرى في البلاد تمت إقالة الحكومة الأولى بعد نحو عام ونصف عام، وتشكيل حكومة ثانية برئاسة حمدوك، مهمتها: تحقيق العدالة، وفك العزلة الاقتصادية، وإصلاح جهاز الدولة، على أن تقوم هذه الحكومة على مبدأ المحاصصة بين الأحزاب والقوى الفاعلة؛ فيكون لكلٍّ منها حصة خاصة من وزارات الحكومة.
- وفي أكتوبر 2021م، تراجع الجيش عن تعهداته التي اتخذها قبل عامين بشأن تقسيم السلطة تمهيدًا لانتخابات حرة، حيث قام بالاستيلاء على مقاليد الحكم، وإقالة حكومة حمدوك الثانية واعتقاله ووزرائه؛ بدعوى منع انزلاق البلاد إلى الفوضى؛ مما أدَّى إلى تجدد المظاهرات المناهضة للجيش، فأعلن الجيش الانسحاب من العملية السياسية، وترك الفرصة للأحزاب والقوى المدنية للتوافق فيما بينها.
انقسامات وعدم توافق:
رغم حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، فإن السودان تشهد حالة غير عادية من الانقسامات داخل القوى الوطنية، وداخل الأحزاب نفسها، وداخل الجيش؛ تسببت -وما زالت تتسبب- في حالةٍ مِن فقد الحد الأدنى من التوافق بين جميع الأطراف، وتنازعها وصراعها على صدارة الحكم، مع تجاهل مردود ذلك وانعكاسه على أوضاع البلاد: السياسية، والاقتصادية، والعسكرية؛ ففي السودان أكثر من 100 حزب سياسي، يرى كل منها أحقيته في المشاركة في الحكومة! وهناك 37 حركة عسكرية تتصارع فيما بينها، وهي في مواجهة مع الجيش السوداني المركزي في الخرطوم، وهدف برنامج كل منها الوصول للسلطة دون تبني برنامج حقيقي يهدف إلى إخراج البلاد من أزماتها. ومنها حركات مسلحة ما زالت تصر على الاحتفاظ بقواتها وعتادها العسكري؛ رغم قبولها المشاركة في السلطة، ومشاركة قادتها في الوزارات.
وتعاني الأحزاب الكبيرة في السودان أيضًا مِن داء الانقسام داخل الحزب الواحد كما هو الحال في الحزبين الكبيرين: الأمة والاتحادي، فهناك احتمال لانقسام حزب الأمة بين فريق مؤيد يمثِّله التيار الراديكالي للحزب، يرى المضي خلف تَوَجُّه قوى “الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) باستبعاد تيارات من السلطة الانتقالية، ويمثِّله: مريم صادق المهدي وزيرة الخارجية السابقة، والصديق الصادق المهدي، وزينب الصادق المهدي وزوجها: الواثق البرير، وفريق ثاني يرى: أن الإصرار على ذلك يمنع الوصول إلى توافق وطني، ويمثِّله: مساعد رئيس الجمهورية السابق عبد الرحمن الصادق المهدي، وشقيقه القيادي السابق بجهاز الأمن بشرى الصادق المهدي؛ بالإضافة إلى زعيم الحزب ناصر بورمه.
ولحق الانقسام كذلك بقوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة ضد البشير، والتي انقسمت إلى قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وقوى الحرية والتغيير لجنة الميثاق، وقوى الحرية والتغيير الجذري؛ إضافة إلى لجان المقاومة التي تنتشر في جميع مدن السودان بتشكيلات مختلفة لم تتوحَّد حتى الآن في كيان سياسي واحد، كما أنه انفصل عن قوى الحرية والتغيير ما يعرف باسم: تنسيقيات الثورة، وروابط أسر الشهداء.
أما الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال؛ فقد انقسمت إلى حركة يقودها: عبد العزيز الحلو التي ترفض أي توافق أو حوار سياسي، وهي التي تقود التمرد العسكري في جنوب كردفان، وإلى الحركة الشعبية التي يقودها: مالك عقار، وياسر عرمان، والتي انقسمت بدورها إلى عقار في السلطة، وعرمان في المعارضة.
وتعاني القبائل في السودان من العنصرية؛ فترى كل قبيلة أنها صاحبة الشرف الرفيع وتنحط في نظرها القبائل الأخرى؛ لذا فتقوم قبائل منها بحماية اللصوص والمجرمين من أفرادها إذا اعتدوا على قبيلة أخرى، وقد قامت حروب بين تلك القبائل قُتِل فيها المئات، وتشرد بسببها الآلاف، وأعلنت بعض القبائل عن ترسيم لها وكأنها دولة مستقلة (راجع في ذلك مقال: “العنصرية وأزمة النيل الأزرق” للكاتب خالد محمد علي – جريدة الأسبوع – عدد الأول من أغسطس 2022م، ص 7).
قادت قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بمشاركة لجان المقاومة عمليات تظاهر في الشارع السوداني تطالب بإبعاد العسكر عن المشاركة في الحكم، وإقامة دولة علمانية تحت رعاية المفوضية الأوروبية وأمريكا، في فترة بات يعاني السودان فيها من فوضى أوقفت عمليات الإنتاج والعمل، والتجارة والاستثمار والسياحة، وزاد فيها رفض تواجد العسكر في الحكم؛ مما حدا بالبرهان ونائبه حميدتي في يوليو 2022 إلى إعلان الانسحاب من عملية الحوار التي تشرف عليها أطراف دولية ترى أيضًا ترك الساحة للقوى السياسية بعيدًا عن ادعاءات هيمنة العسكر أو أطماعهم في السلطة، كمحاولة إنقاذ يتم فيها اتفاق القوى المدنية فيما بينها لتشكيل حكومة مدنية لإدارة البلاد، مع اكتفاء الجيش بمهمته الأساسية، وهي: الحفاظ على البلاد.
جاء ذلك في وقتٍ اندلعت فيه نزاعات قبلية في إقليم دارفور بين القبائل العربية والقبائل الإفريقية؛ مما ينذر أيضًا بحرب أهلية، كما شكَّل النزاع القبلي في إقليم النيل الأزرق في جنوب البلاد تهديدًا بتوسيع الحرب الأهلية وعدم السيطرة عليها، بل كان امتداد النزاع الأهلي إلى إقليم كسلا في أقصى شرق البلاد (راجع مقال: “البرهان يلقي الكرة في ملعب الأحزاب” خالد محمد علي – جريدة الأسبوع – 25 يوليو 2022م، ص 8).
ومما زاد الأمر في السودان سوءًا: تحركات أطراف دولية لتوجيه الأحداث داخل السودان في ظل وقوع أطراف سودانية في الولاء لتلك الأطراف الأجنبية الخارجية، وبلغ الأمر ذروته من خلال توجهات ممثل الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس التي تتشابه مع ما قام به جون برايمر حاكم بغداد بعد الاحتلال الأمريكي في العراق عام 2003م، من توجهات قادت العراق إلى حالة من الانهيار والفوضى، والتمزق والضياع.
فكما انقض نصف الشعب العراقي على نصفه الآخر بدعوى القضاء على كلِّ مَن كان ينتمي إلى حزب البعث الذي كان يترأسه “صدام حسين”، كانت الدعوة لتكوين لجنة سياسية لإزالة التمكين لا تخضع للقضاء بمباركة فولكر؛ بدعوى القضاء على كلِّ مَن ينتمي -أو انتمى- إلى حزب المؤتمر الوطني الذي كان يترأسه البشير، والذي حكم السودان لمدة ثلاثة عقود؛ فقامت اللجنة بدهم بيوت متهمين وشركات ومحال، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم -وهي ممتلكات خاصة، وليست ممتلكات دولة-، إلى جانب اعتقال وسجن قيادات وأفراد دون سندٍ مِن قانون، ودون أي محاكمة! وقد لقى هذا الأمر استنكار جميع الجهات القانونية والحقوقية في السودان وخارجها.
وكما قامت فرق للموت في العراق بقتل قادة عسكريين وأمنيين وسياسيين ورجال فكر؛ بسبب انتمائهم السابق إلى حزب البعث، كان تأسيس اللجان المقاومة من شباب بالتعاون مع الحزب الشيوعي السوداني الذي ينادي بالتغيير الجذري.
وكما تم تقسيم السلطة في العراق على فكرة المحاصصة بين السنة والشيعة والأكراد؛ مما جعل الأطراف الثلاثة في حالة صراع دائم، كانت المطالبة بإعادة تنظيم وهيكلة الجيش والأجهزة الأمنية على مبدأ المحاصصة بين القبائل السودانية حسب حجمها لتحويل الجيش السوداني من جيش وطني إلى جيش قبلي، بل المطالبة باستبعاد وإقصاء العديد من الأحزاب والتيارات السياسية مما يجعلها تدخل كمعارضة في المستقبل في صراع مع ممثلي السلطة (راجع في ذلك مقال: “برايمر العراق وفولكر السودان” خالد محمد علي – جريدة الأسبوع – عدد 22 أغسطس 2022م، ص7).
هذا إلى جانب ما تتعرَّض له السودان: بسبب ضياع مئات الملايين من الدولارات من ثرواتها نتيجة الفساد المستشري؛ خاصة فيما يتعلَّق بنهب ذهب السودان؛ إذ إن عمليات استخراج الذهب التي تتم عبر الشركات الوطنية والأجنبية لا تشكل أكثر من 10 % من عمليات استخراج الذهب في السودان، بينما يقوم أفراد من الشعب باستخراج ذهب السودان وبيعه بشكل فردي؛ إذ إن عملية الاستخراج هناك لا تزيد تكلفتها عن خمسة آلاف دولار، وهو ما يجعل عددًا كبيرًا من أفراد الشعب ينتشرون في ربوع السودان بحثًا عن الذهب، كما أن قادة من الجيش أيضًا يقومون بتهريب الذهب خارج البلاد.
وقد تسببت هذه العمليات غير المنظمة في أزمة كبيرة واجهت الحكومات في السودان في ظل غياب هيبة الدولة واستحواذها على الثروات القومية والإستراتيجية، ومعلوم أن قوات الردع السريع بقيادة حميدتي تنفق على نفسها من خلال سيطرتها على منجم للذهب في دارفور، ولا يخفى كيف فقدت السودان ثروات البلاد من البترول بتسليمها إلى دولة جنوب السودان، على الرغم من أن السودان هو مَن تحمل جميع تكاليف التنقيب عن البترول وإنتاجه، وتكلفة مد خطوط أنابيب التصدير من الجنوب بطول 1600 كيلو متر، والتي اقتطعت كلها وسلمت إلى دولة جنوب السودان ليبقى السودان خاليًا منها (راجع مقال: “ذهب السودان” خالد محمد علي – عدد الأسبوع – 8 أغسطس 2022، ص 7).
ولا يخفى أن قيام حرب أهلية وفوضى شاملة في السودان ستكون مصر معه محطة لجوء رئيسية لأبناء السودان البالغ عددهم 45 مليون سوداني، إلى جانب احتمالية خروج ودخول أسلحة مهربة ومسلحين من السودان إلى مصر، ومن مصر إلى السودان عبر حدود مشتركة بين البلدين التي تبلغ نحو 1250 كيلو متر، وهو خطر كبير يهدد الأمن القومي المصري، ويهدد الدولة السودانية نفسها، مع ما تحمله من مخاطر تدخل قوى دولية لنصرة طرف ضد آخر، قد تنتهي بتحول السودان إلى عراق أو ليبيا جديدة.
التحرك المصري في السودان:
وقد حاولت الإدارة المصرية من خلال علاقاتها القائمة مع كلِّ التيارات والأطراف السياسية في السودان، المساهمة في إخراج السودان من أزمته من خلال اللقاءات مع جميع مكونات المشهد السياسي للسودان لجمعهم على طاولة مستديرة واحدة تتسع لجميع الأطياف في السودان للوصول إلى حدٍّ مِن التوافق حول اتفاق للمرحلة الانتقالية المقبلة، فكانت لجهود القنصل المصري السابق في السودان دورًا محوريًّا في التمهيد لهذا التحرك المصري، ومِن بعده كان تحرك وفود أعلى للقاء الفرقاء بالسودان، والتي تُوجِّت بزيارة رئيس جهاز المخابرات المصرية للسودان لإنجاز اتفاق سوداني نهائي سريع وشامل؛ حفاظًا على أمن واستقرار السودان من جانب استشعار خطورة ما يحدث في السودان، وتهديده للأمن القومي في مصر.
وقد استند التحرك المصري في السودان إلى: - ضرورة الوفاق الوطني.
- أن يكون حل الأزمة سودانيًّا، مع تحجيم التدخل الأجنبي، على أن يكون في حدود تسهيل الوفاق لا صناعة مستقبل البلاد.
- منع حالة الصراع الداخلي؛ لخطورته على أمن واستقرار البلاد، والمنطقة بأسرها.
- الحرص على الثوابت الوطنية السودانية من وحدة التراب السوداني، وحماية أمنه القومي، واستقلال قراره السيادي.
ورغم أن فرص هذا التحرك المصري كبيرة بين كل التحركات الإقليمية والدولية السابقة؛ لكونها بدون ضغوط سياسة أو اقتصادية، ودون وصاية بتقريب تيار أو حزب دون آخر؛ إلا أن هناك مجموعات سياسية تناهض التحرك المصري؛ إما لتحقيق مطالب أجنبية، أو انطلاقًا من أيديولوجيات مناهضة لمصر (راجع في ذلك مقال: “التحرك المصري في السودان” خالد محمد علي – جريدة الأسبوع – عدد 9 يناير2023م، ص 6).
تفجر الصراع داخل الجيش:
امتد الانقسام والصراع إلى داخل المؤسسة العسكرية في السودان، حيث انفجر في منتصف إبريل 2023م الصراع على القيادة العامة للقوات المسلحة، بين عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري، ونائبه حميدتي قائد قوات الردع السريع، وامتد القتال بين قوات الطرفين إلى أنحاء العاصمة الخرطوم والشوارع فيها للسيطرة عليها؛ مما اضطر معه الكثير من السودانيين إلى الفرار، حيث بلغ مَن غادر الخرطوم خلال أحداث ما بعد الثورة أكثر من نصف سكانها الأصليين، وقوات الردع السريع أنشأت في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير في عام 2013م بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) تحت سيطرة المخابرات لمواجهة المتمردين في دارفور باسم الحكومة، وهي قوات عسكرية غير نظامية عرفت باسم الجنجاويد، يبلغ قوامها نحو 100 ألف مقاتل، تدعمهم 10 آلاف عربة رباعية، وقد خصص للإنفاق عليها أحد مناجم الذهب في دارفور، ثم تم ضمها في آخر عهد البشير إلى الجيش السوداني، وخلال الثورة الشعبية في ديسمبر 2018م انقلب حميدتي على نظام البشير.
ومع إنشاء المجلس العسكري تم اختيار حميدتي نائبًا للبرهان رئيس المجلس، والظاهر من هذا الصراع قدرة الجيش السوداني على التغلب على قوات الردع السريع؛ لأن الجيش هو الأقوى، والأكثر عددًا وعدة، وإلا فسيتحول الصراع إلى ما يشبه الحرب الأهلية؛ خاصة وأن قوات الردع السريع معدة للقتال داخل المدن وشوارعها، وتحت سيطرتها مناجم ذهب في دارفور لتمويلها، وهي تشارك قوى الحرية والتغيير في كثيرٍ من مطالبها.