بقلم / رامي الشاعر
في كلمته أمام زعماء الأمة العربية في القمة الـ 32 للجامعة العربية في جدة صرح الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأن بلاده “لم تختر الحرب، ولم تنخرط في أي أعمال عدائية على أراض دول أخرى”.
زيلنسكي، الممثل والمهرج، أصبح ضيفا دائما لا في استوديوهات السينما وعلى خشبات المسارح والعروض العالمية، وإنما على مسرح السياسة الدولية، ليشارك في معظم الفعاليات السياسية الدولية والإقليمية وكذلك المهرجانات والمسابقات الدولية وغيرها من الفعاليات التي أصبح بعضها يدعوه حتى لمجرد الحصول على نسبة أعلى من المشاهدات والإعجابات والمشاركات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وصل زيلينسكي جدة يوم أمس الجمعة، وأكد أمام القمة العربية أن أوكرانيا “لن تخضع أبدا للمطامع الروسية”، ووصف ما يقوم به نظامه بـ “الدفاع عن أرضه أمام الغزاة”، مشددا على أن من يفعل ذلك “يسير على طريق العدالة”.
لا شك أن موهبة الفنان التي ضلت طريقها إلى السياسة تطغى على خطاب زيلينسكي الذي يحاول مرة تلو المرة بيع قضيته مقتطعة من السياق الدولي، سعيا لفرض سردية غربية تختصر قضية الصراع في “حرب” شنتها روسيا “ضد أوكرانيا”، و”حرب” بين روسيا وأوكرانيا.
لذا وجب العودة مرة أخرى لأصول الأشياء، ولا سيما مسودة المقترحات الثنائية بين الدولتين (روسيا والولايات المتحدة الأمريكية) الخاصة بالضمانات الأمنية، والاتفاقية الخاصة بإجراءات ضمان أمن روسيا والدول الأعضاء في حلف “الناتو”، والتي تنص على ألا يتخذ أي من الطرفين ولا يشاركان بشكل منفرد أو ضمن تحالفات عسكرية أو منظمات دولية في أي إجراءات تضر بأمن أحدهما الآخر، وتقوض المصالح الأمنية الجذرية لبعضهما البعض.
وعلى ألا يستخدم أي من الطرفين أراضي دول أخرى لتحضير أو تنفيذ هجوم عسكري على أحدهما الآخر، أو اتخاذ أي إجراءات تخص المصالح الأمنية الجذرية لبعضهما البعض.
وعلى أن تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بمنع امتداد “الناتو” شرقا، وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفيتي إلى الحلف، بالإضافة إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفيتية السابقة غير المنتمية إلى “الناتو”، واستخدام البنى التحتية فيما لممارسة أي أنشطة عسكرية وعدم تطوير التعاون العسكري الثنائي معها.
وعلى الامتناع عن نشر قوات أو أسلحة، لا سيما ضمن إطار منظمات دولية وتحالفات عسكرية في المناطق التي يرى الجانب الآخر في انتشار هذه الأسلحة والقوات فيها تهديدا لأمنه، ما عدا الانتشار في داخل أراضي الدولتين.
كان الرد الصريح على هذه المسودة هو أن “لا مفاوضات حول الأمن الأوروبي بدون حلفائنا وشركائنا الأوروبيين” وجاء على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، فيما شدد حلف “الناتو” على “أهمية شراكته مع كييف”، رافضا دعوات موسكو إلى استبعاد انضمام أوكرانيا مستقبلا إلى الحلف.
لذلك فربما يكون زيلينسكي صادقا وهو يقول إن بلاده “لم تختر الحرب”، لكن هناك في الغرب، وتحديدا في واشنطن من “اختار لها” هذه الحرب، ودججها بالسلاح، ودرب عناصر قواتها المسلحة، وأنشأ قواعده العسكرية على أراضيها، من أجل أن تصبح رأس الحربة في حرب “الناتو” ضد روسيا. بمعنى أن زيلينسكي ليس سيد قراره، ولا قرارات أوكرانيا تتخذ في كييف، وإنما في واشنطن، ولا أقول في بروكسل.
وأبدا لم تكن هناك “مطامع روسية” كما يزعم الرئيس الأوكراني، وإنما كانت هناك رغبة حثيثة على مدار ثمان سنوات طويلة مرهقة ودموية، للإبقاء على دونباس ضمن حدود أوكرانيا، مع ضمان حقوق السكان الروس في ممارسة حياتهم الاعتيادية على النحو الذي تعودوا عليه، وكانت هناك اتفاقيات “مينسك” التي اعترف الزعماء الثلاثة ميركل وهولاند وبيتروشينكو أنها لم تكن سوى مسرحية هزلية لكسب الوقت لإعداد أوكرانيا للحرب.
لقد قامت كييف بعمليتين عسكريتين لإخضاع الجمهوريتين الانفصاليتين في دونباس، جمهورية دونيتسك الشعبية، وجمهورية لوغانسك الشعبية، وفشلت العمليتان. وقبيل بدء العملية الثالثة، وبعد ثمان سنوات راح ضحيتها 14 ألف قتيل، اضطرت روسيا إلى الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، وعقدت معهما اتفاقيات دفاع، لتدافع عن الأهالي الروس المكلومين، الذين ظلوا زهاء ثمان سنوات ينتظرون تلك اللحظة بفارغ الصبر، فيما ارتأت القيادة السياسية عدم التسرع، وإعطاء كييف مزيدا من الوقت للرجوع عن سياساتها “النازية” تجاه مواطنيها الروس.
أقول هذا فقط لتوضيح دور الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي على خارطة العلاقات الدولية، لأنه ليس سوى أداة يستخدمها الغرب لوضعه على الواجهة في محاولة لتضليل المجتمع الدولي، وصرف انتباهه عن حقيقة وحجم الصراع بين نظام آفل يتمسك بأحادية القطبية وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، وبين المساعي الجديدة للانتقال إلى عالم التعددية القطبية والتخلص من تلك الهيمنة والتبعية الغربية وما تتوهمه الولايات المتحدة من تحكم في مصير العالم.
لذلك فإن تصوير الأزمة بوصفها مجرد “ضم لشبه جزيرة القرم عام 2014″، وبعدها اندلعت الأزمة بين روسيا والغرب، ثم العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا والتي يتم تصويرها وكأن روسيا استيقظت ذات يوم في فبراير 2022، لتقرر أنها ترغب في “ضم مزيد من الأراضي”.
وإذا كان الأمر بالأمر يذكر، فلعلنا نحن العرب نتساءل الآن حول هذه الهستيريا وكم الأسلحة والأموال التي تدفقت لمساعدة أوكرانيا، ولم تتدفق لمساعدة الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال منذ 75 عاما؟!
إن عمليات الاضطهاد والقتل ضد الشعب الفلسطيني تستمر وتزداد بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلنت قبل 4 سنوات القدس عاصمة لإسرائيل، فهل ننتظر من عالم تهيمن على مقاديره الولايات المتحدة التوصل إلى حل للقضية المركزية للعرب، قضية فلسطين، حلا عادلا؟
وهل يشكك أحد من الزعماء العرب أن الأجواء الجديدة التي سادت من مصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ومن عودة لسوريا إلى حضن الجامعة العربية، ومسار تطبيع العلاقات السورية التركية، وما يمكن أن يتلو ذلك من إقالة سوريا والشعب السوري من عثرته، وما يمكن أن يعنيه كل ذلك من تداعيات على الوضع في لبنان، واليمن، وربما بعد ذلك ليبيا والسودان، هل يشكك أحد أن تلك الأجواء تشكل مناخا دوليا جديدا يمنحنا آمالا بتفعيل دور وقرارات الأمم المتحدة، وإنهاء الهيمنة الأحادية، ويمكن أن يكون هذا هو السبيل الوحيد، إضافة إلى صمود ونضال شعبنا الفلسطيني، لتحقيق طموحات كل العرب في حل القضية الفلسطينية حلا عادلا من خلال إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف؟
زيلينسكي لم يعكر صفو اجتماع القمة الـ 32 التي تمركزت حول عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهذا تحديدا هو الحدث الأهم والأبرز في هذه القمة. وروسيا تقدر مبادرة السعودية في إنهاء الأزمة الخليجية مع قطر، وتقدر ما تقوم به المملكة الآن لإخراج لبنان من أزمتها واستعادة سوريا لدورها في جامعة الدول العربية، وقد ساعد ذلك كله في استعادة الدور العربي الموحد لفعاليته إقليميا ودوليا، لا سيما في مرحلة انتقال العالم من أحادية القطبية إلى التعددية القطبية، وتفعيل دور منظمة الأمم المتحدة.
روسيا كذلك تقدر ما تقوم به المملكة العربية السعودية من جهود دبلوماسية حميدة تشكر عليها كمقدمة ربما لترضية الولايات المتحدة الأمريكية والغرب للبدء في محاولة باسم العالم العربي للقيام بدور في التأثير على مرحلة التحولات الدولية التاريخية التي ستؤثر بكل تأكيد على منطقتنا، على الرغم من التوقيت الحساس الذي ربما يترك مجالاً للتساؤلات، دون شك في نواياها الحسنة.
بقي أن أشير إلى أن جميع المشكلات والأزمات التي نعاني منها في فلسطين وسوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان لها قرارات دولية لحلها، إلا أن شلل الأمم المتحدة، نتيجة نهج الحفاظ على الأحادية القطبية الذي تتمسك به الولايات المتحدة، هو ما يعرقل حل هذه القضايا. يبقى كذلك أن ننتظر قريباً تبدد أوهام زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع التي تجتمع في هيروشيما وتعتقد أن بإمكانها “الاحتواء المزدوج لكل من روسيا والصين”، ونأمل أن يصل هؤلاء أخيراً إلى قناعة أن روسيا لا ولن تهزم، ولن يستتب الأمن في القارة الأوروبية أو في العالم بدون روسيا، وليس أمامهم أي خيار سوى الاستسلام والقبول بالنهج السياسي الجديد ونظام التعددية القطبية على المستوى الدولي، وأنه لا محيص عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.
كاتب ومحلل سياسي فلسطيني.