العودة بالشعر إلى نبعه الفلسفي
بقلم/ جمال الموساوي*
فيما يشبه هجرة معاكسة، ينزح عبد القادر الشاوي من الرواية، ومن التخييل الذاتي كجنس كتابي أثير لديه نحو الشعر. كأنه بذلك يغطي الفراغ في ساحة الشعر التي يهجرها الشعراء نحو الرواية. بيد أن هذه الهجرة ليست هجرة تقطع الصلة بالأصل، فهو ينقل خلال رحلته زاده الذي هو تصوره للذات الموزعة بين الحضور والغياب، بين وجود مشروط بالعدم، وعدمٍ ليس ثمة ما يقاومه إلا الكتابة.
فهل الذات هي التي تكتبُ أم آخرُ مجهولٌ في الظاهر، ومعلوم متخف في واقع الأمر يتمثل في أحد “الأشخاص” الذين يكوّنون الشاوي المتعدد، الموزع إنتاجه بين الأسماء المستعارة التي طالما كتبت بالنيابة عن اسمه الحقيقي/القانوني كما هو مسطر في الدفتر الرسمي، والمتفرقة اهتماماته وانشغالاته بين الرواية والنضال الحقوقي والصحافة والعمل الدبلوماسي؟
يتأكد هذا من عنوان الديوان “بالنيابة عني يا أيها القناع”. فلا ندري هل الأمر إخبارٌ أم تعجبٌ أم استنكار. هل نحن حقا أمام تلك الحيل الكتابية التي تميز كتابات الشاوي عموما حيث ذلك التتويه للقارئ، واستثارة حيرته أمام المقروء أم إن الأمر على وجه الاحتمال الشبيه باليقين لا؟ ترى هل يخبرنا الشاعر أن القناع كتب بالنيابة عنه، أم إنه يتعجب (أو يستنكر) انبراء القناع للكتابة بالنيابة عنه، إذ يكفي تغيير نبرة القراءة للعنوان حتى تصل إلى القارئ القراءات الممكنة للتأويل، بين الإخبار والتعجب أو الاستنكار.
بيد أن من حق قارئ الديوان أن يضع المتاهات التي يدخله الشاوي فيها حين يقرأ رواياته أو كتاباته في التخييل الذاتي، ليتعامل مع النص باعتباره تعبيرا حقيقيا عن عبد القادر الشاوي الشاعر كذات تعيش توتراتها وقلقها في مواجهة العالم. ذلك أن الشعر، في اعتقادي، هو الجنس الإبداعي الذي لا يمكن للذات أن تتملص منه. فهو على خلاف الأجناس الأخرى ينطلقُ من أقصى الخصوصيات الذاتية ليعبر عن رؤية للعالم ليس على لسان شخصيات متخيلة أو على لسان سارد يكون هو القناع، بل على لسان الشاعر نفسه. وبذلكَ فكل شعر إنما يحمّل الكلماتِ الحالة التي تكون عليها الذات، توافقا أو توترا، في علاقتها بالأشياء، وبالآخرين، وبالعالم.
من هذا المنطلق، قد يكون هذا الديوانُ هو الكتابة الأكثر تعبيرا عن الشاوي بلغته الأصيلة التي بدأ بها وعاد إليها، نشرا على الأقل، بعد مسافة زمنية طويلة، أي لغة الشعر المنطلقة من الذات يقودها ضمير المتكلم بتلك النرجسية المشروعة للشاعر الذي ينفرد بالإقامة في اللغة كبيتٍ رمزي يحتفي فيه بنفسه، ويستضيف فيه تلك الكائنات اللامرئية التي تتمثل في مشاعره المتناقضة سلبا وإيجابا في تفاعلها بداخله.
وهكذا صرتُ في أرض لها لغتي
وفي ندوبها أحزاني
وأنا الوصي على أنحائها
أحكمها كأن الشرود يلهمني
فأرد لها ما في اللسان من بيان
وأرمي القيود على أرضها
أقول: من وله وتحنان.
“تحنان” كلمة، بالإضافة إلى إيقاعها الموسيقي، هي كلمة بحمولة بوح غاية في القوة باعتبار دلاتها ومعناها المعجمي على الأقل. فكأن الشاعر تملكهُ حنين جارفٌ بعد هذه السنوات الطويلة من الترحال بين أجناس الكتابة وبين مواقعَ ومناصبَ ليعود إلى الأرض الأولى، وإلى اللغة التي بدأت بها المسيرة والمسارُ واشتبك فيها الشك واليقينُ وظل السؤالُ هو النجم الهادي الذي لا يغيبُ إلا ليظهر في صيغة جديدة. لا تكاد تخلو قصيدة من علامات الاستفهام، وهو ما يعني أن ثمة ما يبحث الشاعرُ عنهُ، أو أن حيرة ما تنهشهُ في مواجهة الوجود والتباساته المتعددة، أو أن الأمر يتعلق بتوجيه القارئ ودعوته للانخراط في رؤية الشاعر للأشياء وللعالم، التي هي رؤيةٌ تستسلم بشكل شبه مطلق للشكّ باعتباره وقودا ضروريا كي تستمر الحياة وتتجدد، ذلك أن اليقين يشبه محطة نهاية السير لقطار الحياة تتوقف فيها الحواس وتتعطل. “الارتياب رتبتي والشك ملتي واللذة أيضا في أقاصي الشهوات حجتي”.
إن الانحياز للشك على هذا النحو هو انحياز للحرية، على حساب قيود اليقين الذي يشبه القفصَ ينتظر فيه الإنسان ساعته الأخيرة. وهنا من الممكن التعسف قليلا في القراءة بالإشارة إلى أن الكتابة في هذا الديوان هي مقاومة لهذا اليقين الموتِ، وتشبث مستميتٌ بالحياة من خلال تمجيد ما ينسف هذا اليقين. أي بالسؤال المشكك المتمرد المتطلع الذي تتفرع عنه احتمالات هي في الواقع مسارات ٌ افتراضية ومنافذ للتحرر من واقع جامد يحتاج إلى رجة، أو من فكرة ثابتة يلزمها نسف، ولو تعلق الأمر بالذات نفسها التي اقتضت التجربة الحياتية أنها قيدٌ من القيود هي الأخرى “اللهَ، ما أعظم الطرق حين يشق بابي ويكاشفني: الذات قيد”.
بالوصول إلى هذا الحدّ من الانتباه الذي يبدو متجاوزا لكل الحدود فيما يتعلق بتحديد أنواع القيود، تكتمل حيرة القارئ، وتشتعل بين يديه الأسئلة. إذا كانت الذات قيدا، أي ذلك الكيان الذي عجنته السنوات بعناصر تتجانس وتتنافر بين مرجعيات وأفكار وقيم ومواقع وعواطف وأحاسيس، وإذا كانت الكتابة سلاحٌا للدفاع عما نرغبُ فيه وينازعنا الزمن عليه والعدم، فهل هذا الحضور الطاغي للذات في القصائد ما هو إلا نوع من الرغبة في تطهيرها والتخلص من أوزار التكوين، أي نوع من الوثب خارج المصير المرسوم بتعبير سيوران؟
وانا أقرأ الديوان، لم أنتبه كثيرا، إلى هذه اللغة القادمة من زمن آخر في نبرتها ولكنها تنتمي إلى زمنها فيما يتعلق بحمولتها ومعجمها. اللغة المترددة بين الغضب وفكرة الثورة والحلم قبل أن ينكفئ كل شيء، وبين الاهتمام بمصائر الذات التي فرضت عليها الوقائع التالية أن تعود لنفسها كي تعدد خساراتها ليست لتنزوي وتموت وإنما لتؤدي واجبها في مقاومة الفراغ والوهم والآمال التي لا تقترب إلا لتبتعد.
” دعنا نرحل سويا يا حبيبي،
لأن سؤالك عن الفراغ ليس فلسفيا
بعد أن دانت كل الكتب
بالشك في حمى اليقين
أنا المسافر لن أصل
ولن يصل القطار
ولن يصل الوصول
لأن وجهتي فارغة”.
إن هذا المقطع قد يختصر المعجم الذي اتكأ عليه الشاعر في هذا الديوان، بين هذه المفردات ذاتها ومرادفاتها، والتعابير التي يمكن أن تعبر عن معناها أو ما يقترب من معناها. لكن هذا ليس هو المثير في الأمر، بل لأن الجملَ الشعرية والصور المتولدة عنها تقدم لنا ذاتا قلقة متوترة، تعرف أنها تمارسُ مقاومة مضنية ضد الزمن الذي يسعى لمحوها، وهي في الوقت نفسه تسعى، في لمسة عبثية، لمحو أجزاء منها كي تتحرر وتتجدد وتستمر:
تداهمني ذكرياتٌ
لا أرى لها سببا
ولا أرى لي في التذكر أي سبب.
هكذا يتجاوز الشعر كونه انفعالا وانفجارا للمشاعرِ ليتحول، في لغة أكثر هدوء من السؤال الذي يشبه زوبعة، إلى لحظات من التأمل للنظر وإعادة النظر في علاقات الذات بما حولها من الأشياء والآخرين والعالم، ولتحديد موقعها وموقفها من كل ذلك. إن هذا التحول هو خروجُ من سجن المشاعر إلى فسحة العقل، وهو أيضا عودة بالشعر إلى نبعه الفلسفي الذي يمنح للأسئلة التي يزخر بها الديوان العمق الضروري خاصة أنها أسئلةٌ ملغومة ومؤرقة حول المعنى الذي يفترض أن يلتصق بالحياةِ كوجود عابر بين عدمين، أحدهما في الخلفِ والثاني ينتظر. الأسئلة التي يمكن اعتبارها لحظة وعيٍ وانتباهٍ إلى أن الحياة ومعها معناها ينسابان مع الأيام، دون اعتبار لما قد يكون أجوبةً مؤقتة تصوغها ذاتٌ ضئيلة منذورة للزوال ولأن تدخل يوما في النسيان.
إن هذا الوعيَ هو ما يجعل الكتابةَ عند الشاوي في هذا الديوان، وحتى في كتاباته الأخرى جميعا، معدية بأسئلتها وانشغالاتها وقلقها، ولا تترك القارئ تأخذه سِنة أو يسهو، لأنها كما قال هو نفسه في مكان آخر وفي سياق مختلف ليست مجرد إنتاج ذهني ولغوي مواز للحياة الفردية، وإنما هي أيضا أسلوب للتحرر من سلطة الجماعة وتجاوز محظوراتها الضاغطة. وأحسب أن هذا الديوان سعيٌ فوق ذلكَ للتحرر من أوهام الذات السابق منها وتلك التي قد تعنّ لها في الآن أو غدا، وأن الكتابة فيه دعوة متواصلة لجعل كل شيء موضوعا للتساؤل والشك والبحث عن المعنى. الكتابةُ بهذا الشكل مقاومةٌ للموتِ بأشكاله وتجلياته كافة، ما تعلق منه بالجمود والركون إلى فهم معين للعالم، وأيضا ما تعلق منه بالزوال وولوج دائرة النسيان:
إذا سها عني زمني
سأقول للأزمان:
هيا نمضي سويا
لأن السبيل هو النسيان.
- كاتب وشاعر