يحاول الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتهام روسيا بتزويد جارتها بيلاروس بأسلحة تكتيكية نووية سعيا إلى التلويح والتهديد بالسلاح النووي ضد البلدان الغربية.
تبدو تلك المحاولات في غاية الهزل والغرابة والعبث إذا ما علمنا أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنشر زهاء 180 رأسا نووية من طراز “بي-61″، في إطار استراتيجية “الغموض المحسوب”، والتي تتوزع على قواعد عسكرية جوية لدول “الناتو”، مثل “إنجرليك” التركية، وقاعدتي “أفيانو-غيدي” الإيطاليتين، و”كلاين بروغل” البلجيكية، و”فولكل” الهولندية، و”بوشل” الألمانية.
في الوقت نفسه يعلن “الناتو” صراحة عن عقيدته العسكرية التي تكن العداء والتهديد العلني لبيلاروس وروسيا على حد سواء، واللتان ترتبطان باتفاقيات وحدة الحدود والدفاع والسياسة الخارجية المشتركة، إضافة إلى ذلك فهناك رؤوس ساخنة في الغرب تسعى لتزويد أوكرانيا بأسلحة نووية تكتيكية، ليصبح ذلك تهديدا وجوديا صريحا لبيلاروس ولروسيا.
يتعين كذلك توضيح أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من بادر بالتخلي عن المشاركة في اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية وضمان عدم استخدامها، وكل المعطيات تشير إلى أن روسيا، وعلى الرغم من امتلاكها أضخم ترسانة نووية في العالم (تضم نحو 5977 قنبلة نووية)، لا تنص عقيدتها النووية على المبادرة أبدا باستخدام السلاح النووي، وإنما تستخدمه للردع، وللردع فقط.
إلا أن سياسة “الضربات الاستباقية” التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية هي ما يقلق روسيا، وبالتبعية بيلاروس من مغبة ما يمكن أن تقدم عليه واشنطن باستخدام قواعدها وتوابعها في أوروبا من استخدام للسلاح النووي التكتيكي، لا سيما وأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قامت بتغيير بوصلة الإمدادات العسكرية لأوكرانيا أكثر من مرة.
فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية في البداية إمداد أوكرانيا بأي أسلحة هجومية، واقتصرت الإمدادات على الأسلحة الدفاعية فقط، رفضت الدبابات، ورفضت الطائرات بشكل قاطع. كذلك حافظت الولايات المتحدة الأمريكية على رفضها قصف أي أراض روسية بالأسلحة التي تمد بها أوكرانيا.
منذ أشهر، وافقت الولايات المتحدة على إمداد أوكرانيا بالدبابات، والصواريخ بعيدة المدى، ثم وافقت منذ أيام على طائرات “إف-16″، فيما سرب عدد من الشخصيات البارزة في الإدارة الأمريكية والكونغرس الأمريكي رضاهم أو على أقل تقدير عدم ممانعتهم لقصف مناطق روسية، من التي ضمت حديثا، بل ووصل الأمر لمباركة هجوم على الأراضي الروسية في منطقة بيلغورود الروسية منذ أيام.
بمعنى أن سياسات ومسارات “الناتو” لم تعد ثابتة، وتتحرك ديناميكيتها بفعل الضغط من قبل بولندا ودول البلطيق، وبالطبع استنادا لابتزاز نظام زيلينسكي في كييف، وهو ما يثير قلقا في موسكو من إمكانية دخول السلاح النووي التكتيكي في اللعبة، وبالتالي تغيير قواعدها كلية.
في سياق متصل، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس أن أوكرانيا ستستمر في تلقي أسلحة غربية الصنع حتى بعد انتهاء النزاع الحالي، متحدثا عن ضمانات أمنية، تشمل تسليح أوكرانيا، وأشار إلى إمكانية أن تصبح أوكرانيا عضوا في “الناتو”.
في الوقت نفسه صرح شولتس برغبته في الحديث إلى الرئيس بوتين هاتفيا، إلا أنه “يعارض تجميد النزاع الأوكراني”، معبرا عن قناعته بأنه يجب على كييف تحديد شروط تحقيق السلام مع روسيا بشكل مستقل. يدل ذلك على أن رواسب النازية والفاشية الألمانية لا زالت تسري في دماء البعض، والذين يقومون بمحاولات السعي للانتقام من النصر الذي حققته روسيا بالقضاء عليهم في الحرب العالمية الثانية، لهذا ربما يتوهم هؤلاء أنهم يستطيعون مع حلفائهم في “الناتو” يسمونه “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في ساحة المعركة”.
من جانبها، زودت بريطانيا في وقت سابق أوكرانيا بقذائف تحتوي على اليورانيوم المنضب، وهو ما اعتبرته موسكو تطورا خطيرا، وأظن أن ذلك هو ما يثير القلق بأنه الخطوة الأخيرة قبل التفكير في تزويد أوكرانيا بالأسلحة التكتيكية النووية. وإمداد نظام كييف النازي والإرهابي بمثل هذه الأسلحة، أو مساعدته على إنتاجها، فإن روسيا سوف تضطر حينها إلى إعلان الحرب، وبالفعل سيصل الجيش الروسي إلى حدود دول “الناتو”. وتطور الوضع في المواجهة بين روسيا والغرب على هذا النحو من التصعيد، سيوسع من نطاق الصراع، الذي لن يشمل حينها حدود بيلاروس، وإنما سيشمل جميع حدود دول معاهدة التعاون المشترك للدفاع، وربما يمتد إلى مواجهة للغرب مع الصين وهي مواجهة قد تشمل أماكن مختلفة حول العالم، بما في ذلك في منطقتنا العربية، وهو ما يسمى اصطلاحا “الحرب العالمية الثالثة”.
لقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام بأن روسيا لم تكن البادئة بالعدوان، وأنها قامت بعمليتها العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا لإنهاء الحرب التي شنتها أوكرانيا على دونباس منذ انقلاب 2014. وأضيف أن العملية العسكرية الروسية الخاصة كانت شرارة البدء التي انتظرها “الناتو” كي يبدأ المرحلة الساخنة من حربه الهجينة ضد روسيا، والمستمرة منذ عقود.
لم يكن أمام روسيا سوى الصمود، وليس أمامها الآن سوى الانتصار على القوى الغاشمة التي تستخدم الدمية الأوكرانية ممثلة في نظام زيلينسكي كعلف للمدافع، ووسيلة لـ “إنهاك” روسيا و”استنزافها”، إلا أن من يقرأ التاريخ، ويطالع الجغرافيا، يعرف جيداً أن روسيا لا ولن تهزم، وأن بإمكانها إلحاق الهزيمة بـ “الناتو”، حتى ولو لجأ الناتو لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية.
ما نراه اليوم أمام أعيننا هو تحول تاريخي من العالم أحادي القطبية إلى عالم متعدد القطبية، وهو مسار يتعزز بقيادة روسيا والصين، ويتبنى شقه الاقتصادي منظمة “بريكس”، ولا يمكن أن تؤثر محاولات الولايات المتحدة وأذنابها على مسار التاريخ، فالهيمنة الأمريكية إلى زوال، ولن تتمكن الولايات المتحدة من فرض إرادتها على العالم، وسوف تسود العدالة في نهاية المطاف، بما يعنيه ذلك من سيادة القانون الدولي والقواعد والأنظمة التي تخدم مصالح جميع الدول والشعوب في التطور والأمن والرفاهية والاستقرار واحترام السيادة لجميع الدول بصرف النظر عن حجمها واقتصادها وتأثيرها السياسي.
لقد نجحت روسيا فعليا في هزيمة الغرب. يقول الدبلوماسي البريطاني السابق ألاستير كروك، في حوار له على قناة “يوتيوب” Judging Freedom، التي يديرها القاضي أندرو نابوليتانو، إن “الاقتصاد الروسي هو أحد الاقتصادات القليلة حول العالم، الذي سوف يظهر نموا اقتصاديا، ولدى روسيا ديون قليلة للغاية، والتضخم يقترب من الصفر، بينما لدينا في أوروبا تضخم في أسعار المواد الغذائية يصل إلى 20%”.
أشار كروك كذلك إلى فشل العقوبات الغربية ضد روسيا بالكامل، حيث أن روسيا تبيع الغاز والنفط إلى عملاء آخرين في الشرق بسهولة، ويتابع: “أعتقد أن الأوروبيين سيصابون بصدمة كبيرة إذا ما كانوا يعتقدون أنهم في لحظة ما سيعودون إلى روسيا إذا ما انتهت الأزمة الأوكرانية، لأن روسيا سوف تقول لهم حينها إنها آسفة، لأنها أصبحت تتعامل مع دول أخرى، ولا طاقة لديها لهم”، معربا عن ثقته في حدوث ذلك، واصفا إياه بـ “الكارثة الكبرى”.
تقف روسيا الآن ضد النظام الدولي الذي يعتمد على “القواعد بدلا من القوانين” وفقا للمفهوم الغربي الذي يتعامل بفوقية واستثنائية مع بقية الدول، وتسعى روسيا لتعزيز النظام الجديد الذي بدأ يتبلور وأفشل كل مخططات وأهداف الحرب الهجينة الإعلامية والاقتصادية. إلا أن ما يصيب المرء بالدهشة والاستغراب ما نقرأه أو نستمع إليه من بعض المحللين العرب “الملكيين أكثر من الملك” من أيتام الغرب، الذين يدافعون عن سياساته، وكأنهم لم يستوعبوا بعد قدر ما تسببت فيه السياسات الأمريكية والغربية الرديئة في عالمنا العربي من مآس وصراعات وحروب ودمار. ولا يخص الأمر منطقتنا العربية فقط، بل يمتد إلى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
يكفينا كعرب أن نتابع ما يحدث في فلسطين، يكفينا أن نرى من يدعم سياسة القمع والقتل على الهوية والاستيطان وطرد السكان الأصليين. يكفينا أن نرى من يمنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة التي تدعم قيامها جميع القوانين الدولية.
إن فلسطين هي مقياس سيادة العدالة في العالم، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف هو ما يعنيه بالنسبة لي، وبالنسبة لكل عربي حر، معنى كلمة العدل في السياسة الدولية. وعكس ما يريده الغرب من “إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في ساحة المعركة”، نحن لا نريد أن تدمر أوروبا الغربية، ولا أن “تهزم الولايات المتحدة استراتيجيا لا في ساحة المعركة ولا في غيرها”، ولكننا فقط نريد حقوق شعبنا المشروعة في وطن وأرض هي بالأساس ملك له. نريد العدل واحترام القوانين الدولية وسيادة الدول كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، نريد تنفيذ قرارات مجلس الأمن بحذافيرها دون نقصان.
سوف يتخلص الشعب الأوكراني من تلك العصابة الانقلابية التي انقضت على الحكم خرقا للدستور، وسوف تنتهي الأزمة الأوكرانية، وربما تعود العلاقات الودية، وعلاقات الاحترام المتبادل بين روسيا والغرب، وربما تعود خطوط الطاقة والغاز الطبيعي للعمل كالمعتاد، لأن من يريد ويستفيد من الأزمة الأوكرانية لا يلقي بالاً لا لمصالح الشعب الأوكراني، ولا لمصالح الشعوب الأوروبية، وإنما يريد الحفاظ على العالم بالشكل الذي كان عليه، تماماً كما يأبى أن يسمح لفلسطين بحلول عادلة وشاملة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ذاته من يريد الحفاظ على العالم أحادي القطبية، وعلى استمرار الهيمنة الأمريكية، وتحدي العالم مثلما تحدوا العالم العربي بأجمعه عندما أعلنوا القدس عاصمة لإسرائيل.
إن الحل الوحيد لتفادي نشوب “الحرب العالمية الثالثة” هو القبول بالنظام العالمي الجديد، نظام التعددية القطبية، وإنعاش دور ومكانة الأمم المتحدة، وتنفيذ جميع قراراتها، وعلى رأسها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.