في قراءة سريعة للتجارب العربية، يظهر جليا، أن العديد من الدول العربية قطعت أشواطا كبيرة في العمل السياسي منذ استقلالها، لكنه في المجمل لم يكن يحمل المشروع الفكري التنموي والنهضوي الذي راهن عليه العديد من المناضلين سواء قبل الاستقلال أو بعده. فهل كانت الأنظمة العربية سببا مباشرا في ذلك؟ أم أن حتى الأحزاب السياسية نفسها كانت مشلولة منذ الولادة؟ لأن جوهر الممارسة السياسة الحديثة يتجلى في ربط السلطة بالإرادة الشعبية، إذ بموجبه يتحول الحزب إلى فاعل سياسي حقيقي يطبق الإرادة الشعبية في السلطة طبقا لبرنامجه الانتخابي.
تعرف جل الدول العربية العديد من الأحزاب السياسية ذات التوجهات المختلفة، بين اشتراكية، يمينية، علمانية أو دينية أو غيرها، وكلها تمثل التيارات الفكرية والسياسية داخل المجتمع، إلا أنها في نفس الوقت بعيدة عن آراء هده الشريحة من الناس. فهي في جوهرها الانتخابي تجسد هذا الاختلاف، والتنافس على السلطة هو غاية وظيفية الهدف منه خدمة الشعب وليس التطاحن باسم الإيديولوجيا أو المذهب أو العرق.
والأحزاب في المفاهيم السياسية هي تنظيمات دائمة على المستوى المحلي والوطني والإقليمي، هدفها الوصول للسلطة وتنفيذ برامجها والمشاركة في تداول السلطة، الأمر الذي لم تستطع للأسف تحقيقه وهي لا تمارس تداول السلطة حتى داخل أجهزتها حيث تتوارث المناصب بين الأفراد والعائلات والقبيلة.
ولأن الأحزاب مؤسسات تستمد شرعيتها من الشعب عبر الانتخابات، فهي تمثل الشعب وتسعى أن تكون ضمن الأحزاب الحاكمة في إطار الشرعية الديمقراطية وممارسة الفعل السياسي الحقيقي. لكن معظمها معارضة في مكان وزمان ما، وموالية في مكان وزمان ما، أي تتلون بلون المناصب والفرص المتاحة، وهذا أكثر شيء أضر بالواقع السياسي الحزبي العربي، أي الكثير منها لا موقف محدد لها من الحكومات أو من الأنظمة أو حتى من نفسها، فتتوه في متاهات البحث عن الوصول للحكومة.
إنه مأزق الممارسة السياسية اليوم، فهو لا يعبر عن الإرادة الشعبية، مما يولد نفورا سياسيا لدى الشباب وغالبية الناس من الانتخابات ومن الانضمام للأحزاب، الأمر الذي يفسره جيدا نسبة المشاركة في الانتخابات في كل الأقطار العربية بدون استثناء. وفي الكثير من الحالات تصبح هذه الأحزاب وكأنها مفروضة على العامة، رغم عدم شعبيتها إلا أنها تحكم باسم الشعب، وتعرف تصدعات كثيرة وتجاذبات داخلية شتى، حيث يغادرها كل الشرفاء، لتبقى مليئة بالاستغلاليين والانتهازيين والحالمين بالسلطة والمال.
فالأحزاب السياسية وجدت لإنعاش الحياة السياسية في المجتمع وجعل السياسة شانا وتداولا يوميا بين الناس، وتنمي المجتمع وتفتح آفاقا جديدة أمام الكثير من أبناء الوطن، دون إقصاء أو تهميش. إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، فغالبية الأحزاب العربية وجدت لتخدم نخب وطبقات بعينها، وتتوارث السلط والمناصب.
وأمام غياب أحزاب سياسية حقيقية، وفي غياب أنظمة ديمقراطية فعلية، فإن ذلك ينعكس بشكل كبير على جميع الأصعدة ويصيب المجتمع والدولة بشلل تام. لأنها ببساطة تتحول من مدافع عن الحق في الديمقراطية، إلى عائق في وجه التنمية السياسية، وتساهم في ترسيخ قيم مخالفة لهدف النشأة، وتصب في مصلحة الأنظمة الشمولية وتشرعن لسياسات غير ديمقراطية.