يهيمن على واقعنا العربي، حقل من اشتباكات لغوية ولفظية تتكرر باستمرار، في مجتمعات لم تفقه بعد ثقافة الحوار والتفاوض وفك الاشتباكات والنزاعات، فهي مجتمعات ذات أفق معاق، وبلا بوصلة حقيقية نحو بناء الذات، بل تهيم في متاهات مزركشة بألوان وردية يضفيها إعلام مزيف ومثقفون بائعو الأوهام.
منذ عقود ونحن نسمع بالحوارات الوطنية، حوار وطني من أجل وقف إطلاق النار، حوار وطني من أجل الانتخابات، حوار وطني من أجل حكم مدني، حوار وطني من أجل إصلاح التعليم، حوار وطني من أجل تفعيل دور المرأة في المجتمع، والسلسلة طويلة من حوارات لم تنتهي من عقود وستستمر لعقود أخرى، في جو بئيس فكريا، سياسيا، ثقافيا واجتماعيا.
فالحوارات الوطنية لم يكن الهدف منها بالأساس خدمة الأوطان بقدر ما كانت مناسبة لسحق الآخر وإخراجه من اللعبة سواء كان خصما حزبيا أو نقابيا أو منظمات مجتمع مدني أو هيئات أخرى.. فالهدف ليس مكاسب متبادلة للذات وللآخر وللناس، إنما البحث عن المصالح الضيقة، وخير شاهد على ذلك الواقع الفلسطيني، وتشتت المواقف في بلد بحاجة لوحدة الكلمة والموقف، لكن حماس وفتح يبحثان عن فرض الوجود أكثر من بحثهم عن مصلحة فلسطين، المشهد اليمني وحرب الإخوة، والمشهد السوداني اليوم وتخريب وطن لم يشفى يوما من النزاع المسلح.
قد يقول البعض هي مؤامرات خارجية، أدخلت العراق، سوريا، لبنان، اليمن، السودان، الصومال وليبيا في دوامة صراع، أدخل البلدان في مشاكل لا نهاية لها، لكن خيانة أبناء الوطن أشد قساوة من العداءات الخارجية. فمنذ عقود لم تتوصل الفصائل السياسية في العديد من الأقطار إلى توافقات حقيقية، ولم تمل من الوساطات والمحاولات حتى صارت سمة عربية بامتياز، والوساطة المصرية والفصائل الفلسطينية خير شاهد على عقم المفاوضات والوساطات، بحيث أصبحت كقرارات الجامعة العربية، اجتماعات، تنديد أو بلاغ وانتهى الأمر .
وربما صارت التفرقة طريقة استرزاق سياسي، في العديد من الأقطار والمتاجرة بالقضايا الوطنية وسيلة كسب. لماذا لا نملك ثقافة الحوار الحقيقي الحاسم؟ لماذا لا نتعلم من تجاربنا الفاشلة، ونكرر نفس السيناريوهات منذ عقود؟ إلا في القليل من المناطق التي شقت الطريق نحو بناء ديمقراطيات فتية، لكنها توحي وتنبأ بمجتمع أفضل مستقبلا.
الكثيرون سواء من داخل البلد أو خارجه يتوهمون أن بعض المجتمعات العربية انكسرت، خربت بفعل تضارب مصالح الداخل والخارج، في عالم يحكمه نظام جديد يتشكل كل يوم ولا يرحم الضعفاء ولا أولئك الذين يعيشون على هامش الحضارات. ثقافة الحوار يفتقدها العديد من الساسة العسكريين الذين يعيشون بعقلية الحرب الباردة وعصر الاتحاد السوفياتي، لم يخلعوا بعد جلباب الستينيات، في عالم تطور وتغير بشكل كبير، والدبلوماسية لم تعد كما كانت، بل صارت علما لا يفقهه إلا الأذكياء، والبحث عن المصالح لا يجيده إلا المتبصرون في الخريطة الجيوسياسة الحديثة.
أرى أنه من الضروري التسلح بثقافة التفاوض الحق لاحتواء مصالح الشعوب، والفهم العلمي لهذه الثقافة وخباياها، أن نرصد حقلا مفاهيميا لمصطلحات التفاوض وفك النزاعات، لما يفوت علينا من فرص البناء الحقيقي للمجتمع. فالحوارات في المجتمعات العربية كثيرة جدا، وفي مجملها سجالات عقيمة لم تفض لأي نتيجة تذكر سوى اجتماعات متكررة منذ عقود. هناك ملفات ضخمة، لن تحل إلا بوجود عقلاء الأمة، سواء بين فرقاء الوطن الواحد أو بين دول متجاورة، الضحية شعوب انهكتها الصراعات المتتالية، بحاجة اليوم إلى حوار وطني جدي يعكس مقومات لغة التفاوض الإيجابي البناء والهادف.