حكي اليوم.. الارادة القوية و مطبات الحياة
كان ” علي” الوحيد ضمن تسع إخوة حالفه الحظ وتمكن من متابعة دراسته و الإفلات من تعاسة العيش بالقرية التي كانت تفصلها عن زمن التنمية عقودا ، تكفل به عمه ذو الستين سنة و الذي هاجر رفقة زوجته للمدينة خلال سنوات القحط و الجفاف ، استقر ” علي” بمنزل عمه الذي كانت زوجته عاقر ، وكان احيانا يرافقه الى متجره حيث ينزوي باحد اركانه لإعداد بعض واجباته الدراسية ، كانت زوجة عمه تتضايق منه لكونها تعودت على العيش وحيدة بالبيت ، و احيانا تتصرف معه بفضاضة ، اعتاد ” علي” على سلوكاتها وانصرف الى دراسته ، وغدا لا يعير سلوك “رقية ” زوجة عمه اي اهتمام ، يتجاهلها أحيانا و يرد عليها باحترام و وقار أحيانا اخرى ، كلما انفردت به تفرض عليه القيام ببعض الاشغال المنزلية و قضاء حاجيات البيت الخارجية ، ونتيجة الضغوطات الناتجة عن المزاوجة بين طلبات ” لالة رقية ” و الدراسة ، كثير ما كانت تحدث بعد الطرائف ل ” علي” ، إحدى الايام كان على موعد مع فرض في مادة الرياضيات خلال فترة الصباح بالاعدادية التي كانت تبعد عن منزل عمه بحوالي كيلومتر ، طلبت منه زوجة عمه الانتظار الى حين انتهائها من اعداد عجين الخبز لحمله للفران المجاور استعجلها ” علي ” لضيق الوقت كونه ينتظره امتحان ، اخرته بعض الشيء عن موعد الخروج من البيت ، ولتدارك الوقت انطلق ” علي” مسرعا حاملا محفظته و وصلة الخبز و لم ينتبه إلا و هو بوصلة العجين بساحة الاعدادية اثار انتباهه معيد الاعدادية الذي كلف الحارس بحمل الوصلة للفران المجاور للاعداية بعد معرفته قصة ” علي” ، و عند خروجه من حصة الامتحان تدبر اجر طهي الخبز من زملائه دون اخبار زوجة عمه التي علمت بذلك من مساعد صاحب الفران المجاور لمنزلها .
عاش ” علي ” ظروفا اقل ما يقال عنها انها اخف من عيش البادية ، كان عام حصوله على الباكالوريا متعبا جدا لكن فرح حصوله على الشهادة بتفوق خفف عليه ذلك ، كان يرغم على الخروج ليلا للشارع للمراجعة تحت ضوء مصابيح الانارة العمومية حيث كانت زوجة عمه تغلق عداد الكهرباء عنوة بدعوى ان الضوء يزعجها و يحول دون نومها ، عداؤها له كان مبالغا فيه ودون اسباب و دوافع معقولة و مضايقتها له كانت فرصة ل” علي” لمضاعفة جهوده في التحصيل .
كانت سنة حصوله على البكالوريا سنة الخلاص .
التحق بالجامعة ، حقق استقلاله الكلي عن القرية و عن بيت عمه باستفاده من المنحة المالية الجامعية و استقراره بالحي الجامعي .
تفوق في دراسته الجامعية و كان من حين لآخر يزور والديه بالقرية لصلة الرحم و عمه بالمدينة لرد الجميل .
خلال فصل الصيف ومع اغلاق الحي الجامعي لابوابه كان ” علي” يتدبر غرفة باحد سطوح المنازل المجاورة للاقامة الجامعية ويمتهن مهنة بيع الاحدية الرياضية المستعملة بإحدى ساحات المدينة .
حصل ” علي” على الاجازة في الجغرافيا الطبيعية و عين استاذا بإحدى الاعداديات في إطار الخدمة المدنية ، تفوق في عمله و نال رضى الجميع بجديته في العمل و رزانة شخصيته ، ومع اقتراب انتهاء مدة خدمته المدنية ، طلب منه مدير المؤسسة اعداد طلب الادماج في سلك التعليم خصوصا و ان الاعدادية تعرف خصاصا في تدريس مادة الاجتماعيات وانه سيدعم طلبه .
اعتمدت نيابة التعليم بالمدينة الطلب و احتفظت ب “علي” استاذا للسنة المقبلة لسد الخصاص الى حين ادماجه .
كانت التقارير التربوية المنجزة في حق ” علي” من طرف مفتش المادة خلال فترة التدريس كمجند مدني ممتازة .
افتتحت السنة الدراسية الثالثة في عمر ” علي” المهني و استلم استعمال زمنه الدراسي كاستاذ محتفظ به لتدريس مادة الاجتماعيات بالاعدادية موقعا من طريق مسؤول المصلحة التربوية بنيابة التعليم بالمدينة و مدير المؤسسة و مفتش المادة والذي انتقل للعمل بمدينة مسقط رأسه والذي تم تكليف احد الاساتذة القدامى مكانه .
مرت حوالي ثلاثة أشهر عن انطلاق السنة الدراسية ، استدعي ” علي” لدورة تكوينية رفقة باقي الاساتذة المحتفظ بهم بتأطير من المفتش المكلف مؤقتا وكانت الدورة التكوينية في إطار الاعداد للادماج في سلك التعليم ، كانت مشاركة” علي” وازنة ، لكن بدا له شيء غير طبيعي في سلوك المشرف التربوي اتجاهه ، اهو غيرة منه لتفوقه او محاباة لباقي الاساتذة ابناء مدينته ام اشياء اخرى….
تمت الموافقة المبدئية على فكرة الادماج من طرف الوزارة الى حين التوصل بتقارير التفتيش التربوي و الاداري .
كانت صدمة ” علي” قوية حينما اطلع على تقارير المفتش المكلف والتي كانت دون المتوسط في حين كانت تقارير الادارة فوق الجيد جدا، حينها تأكد ” علي” من صدق نية المفتش في اقصائه و محاباة ابناء جلدته ، اتصل بالمفتش لطلب التعليل ، فكان رد المفتش فاصلا مانعا ” استاذ علي طبقت القوانين التربوية وسلم تنقيطها بامانةو تلك نتيجتك ” رد عليه ” علي” بكلام اكثر قضابة ” استاذ ، عند الله الاختصام ” .
انتهى كل شيء و تبخرت احلام ” علي” بظلم المفتش له ، حزم حقائبه وغادر المدينة في اتجاه القرية .
بعد مرور اسبوع بمسقط راسه حيث كان يتردد على مقهى المركز ، التقى باحد زملائه بالدراسة والذي يشتغل موظفا بالرباط اخبره ان احدى الوزارات اعلنت عن توظيف بالاختيار يتناسب و تخصصه ، اعد ملف الترشيح و حمله للمصلحة المختصة بالوزارة المعنية .
تم الإعلان عن نتائج الانتقاء الاولي ، كان ” علي ” ضمن العشر الاوائل في انتظار المقابلة الشفوية ، كانت حضوره وافرة خصوصا وان الوزارة في حاجة لخمسة عشرة منصبا .
مرة المقابلة الشفوية في ظروف اقل ما يقال عنها جيدة جدا ، تصادف يومها مع تعديل وزاري وعين وزير جديد كان رئيسا لبلدية المدينة الذي اشتغل بها ” علي” استاذا مجندا مدنيا .
لسوء طالع ” علي” تعقبه ظلم المفتش المكلف و نحس المدينة حتى باروقة الوزارة الجديدة واقصي اسمه من لائحة الناجحين و تضمنت اللائحة اسماء شخصين من نفس المدينة ، لعل بركة المدينة و تقرير المفتش خارج إطار نفوذه التربوي دعمت عضدهما .
انغلقت كل الابواب في وجه ” علي” الذي لعن اليوم الذي فارقه عن اخوانه التسعة و الحقه بالمدرسة و المدينة و عمه و زوجته و الجامعة و المفتش و حتى الوزير الجديد الذي ذبلت معه زهور الحدائق بالمدينة التي ترأس مجلسها و غابت بها كل الاشياء الجميلة.
تمكن ” علي” من تدبير منحة دراسية ببلاد العجم بمساعدة صديقه الموظف بالعاصمة ، بعد ثلاث سنوات حصل على شهادة الدراسات العليا في مجال التخطيط الحضري و وترشح لسلك الدكتوراه ، صادف صيف عودته للبلد الاعلان عن مباراة في تخصصه الجديد ، ابتسم له الحظ هذه المرة و كأن قارءة فنجان المفتش و الوزير الساكنة بالمدينة القديمة لا تفقه في التخطيط و التعمير و التنمية بل في الفوضى الخلاقة و الهدم و التخلف ..
بعد قضاء فترة تدريب لمدة سنتين تم تعيينه و لسوء حظه بمدينة المفتش الذي تقاعد و الوزير الذي عاد لتراس مجلس المدينة بعد تعديل حكومي و فقده للمنصب الوزاري .
كان ل” علي” الكلمة الفصل في قضايا التعمير و البناء بالمدينة ، دبر الملفات بحكمة مع اعمال القانون و ضوابطه .
كان كل مرة يصطدم بمحاباة رئيس المجلس البلدي لمعارفه و اتباعه و عشيرته في بعض مخالفات التعمير و البناء والتي كان ” علي” يواجهها بصرامة .
انهى” علي” اجتماعا مطولا مع لحنة اليقضة المحلية بالمدينة لوضع برنامج الاسبوع المقبلة لمراقبة عملية البناء و محاربة البناء العشوائي والغير قانوني خصوصا و ان الاسبوع يصادف يوم عيد الاضحى .
انفض الاجتماع ، و اخبره الشاوش ان شخصا متواجد بقاعة الانتظار منذ ساعتين يريد مقابلته ، كانت الساعة تشير الى الخامسة و النصف بعد الزوال خارج الدوام الرسمي للادارة ، اشار على الشاوش بإدخاله .
كانت مفاجأة ل ” علي” و للوافد ، اول مرة يلتقي ” علي” و ” سي عبدالله ” المفتش المتقاعد و منذ ما يزيد على على عشر سنوات .
لقاء كان بطعم الانتصار و الانفة و رد الاعتبار للمسؤول ” علي ” و بطعم مرارة تأنيب الضمير و الاحساس بالحرج ل ” سي عبد الله ” المتقاعد .
بعد تبادل التحايا ، طلب ” علي” من زائره الذي كان يتأبط ملفا ازرقا تبدو عليه علامات القدم بحكم كثرة استعماله و تفقد اوراقه ، اخبره ان لجنة تقنية للمراقبة قامت بمعاينة مسكنه الذي اضاف به طابقا علويا بدون ترخيص بعد موافقة رئيس المجلس شفويا ، و ان اللجنة انجزت في حقه محضرا للمخالفة و صدر حكم قضائي في حقه بهدم الطابق و إرجاع الحالة لما كانت عليه سابقا ، وانه لجأ للمصلحة قصد تسوية و ضعيته بعد ان رفض رئيس المجلس سابقا التنازل عن المتابعة .
خيم صمت رهيب على المكتب ، ” علي” حمله التفكير الى سنوات ماضية خلت و كذلك ” سي عبد الله ” .
وكان جواب “علي” واضحا ” استاذي الفاضل اللجنة طبقت قوانين التعمير و ضواط البناء وصدر حكم المحكمة الفصل في القضية وعليك بالامتثال “
تلقى ” سي عبد الله ” الجواب و حصل الاختصام الدنيوي وبتحكيم القانون و ظلت عاطفة ” علي ” المرتبطة بضميره المتقد و طلب من ” سي عبد الله ” مراجعته بداية الأسبوع المقبل و الله المفرج ، كلمة غيرت محيا الاستاذ الذي هم بتقبيل راس ” علي” الذي وقف و تراجع للوراء مودعا المفتش المتقاعد الذي جمع اوراق ملفه و غادر المكان .
تملك ” علي ” شعور غريب ، صراع بين نزعة الانتقال لكن باعمال القانون بحرفيته الجافة او تغليب ميله الفطري للتسامح و درىء مفسدة الغل و الحقد التي طالما رضعها من ثدي امه و تربى عليها بارض الاجداد رغم قصر اقامته بها يافعا .
أمهل ذاته وتجاذب الافكار بها يومين ، وقرر أخيرا البحث عن مخرج لصاحبه ، خصوصا بعد ان تبين ل “علي ” ان الدولة فتحت مجالا للتسوية و ان الجماعة الحضرية بصدد اعداد تصميم قطاعي للمنطقة المتواجد بها موقع المخالفة باضافة طابق علوي .
تردد ” سي عبدالله ” على مكتب ” علي” حسب الاتفاق ، احيل على المصلحة المختصة التي أخبرته بإعداد طلب التسوية و تكوين الملف الاداري و المعماري و الهندسي ، غادر المصلحة وصورة ” علي ” المجند المدني لا تفارق مخيلته.
تم اعداد ملف التسوية بعد اداء الغرامات و مباشرة مسطرة المصالحة القضائية ، بعد استيفاء كل المساطر و الاجراءات حظي ملف ” سي عبد الله ” بموافقة اللجنة المختصة .
و انتصر سمو اخلاق ” حامل مشروع استاذ ” على قصر نظر ” مفتش تربوي متمرس ” وانتهت الحكاية ….
الجديدة 2022/09/27