السفر و صدف الميعاد
أقبل الصيف ، انتهت فترة الامتحانات الجامعية ، عُلقت النتائج بسبورات الاعلانات بمدخل الكلية ، تجمهر الطلبة بالمكان ، كل العيون تحدق النظر للبحث عن النجاح ، اختلط الفرح بالعبوس ، و خيم صياح؛ فرح وعويل الطالبات على الفضاء .
بلغني خبر نجاحي و حصولي على الاجازة عن طريق صديق حميم لي في الدراسة، اقترح علي امكانية السفر معه الى اوروبا و الاستفادة من برنامج السفر المخصص للطلبة الانتراي (Inter – ray)وكذا الاقامة بمآوي الشباب حيث كنا نتوفر على البطاقة الدولية الخضراء للطالب.
رحبت بالفكرة خصوصا، و أني وفرت بعض المال من منحتي السنوية ، انتظرنا الحصول على وثيقة شهادة الاجازة لتكوين ملف الخدمة المدنية لترتيب السفر . قمنا باجراءات السفر و بكل الحجوزات اللازمة. حزمنا حقائبنا وغادرنا في اتجاه عالم ماوراء البحار ، خلال الرحلة خيم صوت رهيب على قاطرتنا ، كل واحد منا يسبح في عالمه الخيالي يتخيل الممكن و المستحيل.
نبني مستقبلا من الطموحات و نهدمه لاستحالة تحقيقه و نعيد ترتيب الافكار لإعادة البناء.
وصلنا إلى محطة القطار، كان الوقت ليلا ، التعب اخد منا مأخذه ، كانت المحطة خالية بعض الشيء تعرف توافدا للمسافرين من كل الأجناس حسب أوقات وصول و مغادرة القطارات.
تناولنا سندويشا و قررنا النوم بفضاء المحطة في انتظار الصباح للتوجه إلى احد مآوي الشباب بضواحي باريس ، اعتمدنا اسلوب التناوب في حراسة امتعتنا ، استفدت انا الاول من فترة النوم الاولى لساعتين خلدت للنوم وظل مرافقي سعيد يتصفح كتابا بصحبته منذ انطلاق الرحلة وعينه على الأمتعة.
استيقظت مذعورا على صراخ زميلي وهو يتعقب شخصا اسمر البشرة ، يبدو ان زميلي غدره النوم و فاجأه ذلك الشخص و خطف له محفظة اغراضه الشخصية و تعقبه لاسترجاعها ، انقض عليه و اسقطه ارضا و استل الغريب سكينا من جواربه وطعن به صديقي على مستوى رأسه . صرخت بملء قواي للاستنجاد بحراس أمن المحطة ، فجأة طوقوا المكان وألقوا القبض على الجاني ، و استعجلوا سيارة الاسعاف التي نقلت سعيد للمستعجلات بالمستشفى القريب ، التحقت به بعد ان حملت الاغراض في سيارة الامن رفقة مخبري الامن ، بعد القيام بجميع الفحوصات الطبية وتلقي العلاجات الضرورية تبين ان لا شيء يدعو للقلق على صحة رفيقي ، انتقلنا الى فندق الامن المجاور للمحطة (Hôtel de Police)حيث حجزت لنا غرفة في انتظار القيام بالاجراءات اللازمة ، في الصباح تم استدعاؤنا للمخفر وبعد الاطمئنان على صحة سعيد ، تم فتح محضر استماع لمتابعة الجاني ، قدم المسؤول الامني اعتذاره عما حصل بعد التعرف على هوياتنا ووضعيتنا القانونية محملا مسؤولية الحادث الى الهجرة الغير قانونية وأشياء أخرى.
بعد انجاز محضر الاستماع أصر سعيد على عدم المتابعة ووافقته في قراره و غادرنا المكان.
انتقلنا لضواحي المدينة حيث اقمنا في مأوى للشباب، و كنا نستقل الميترو و قطار الضواحي لزيارة مآثر المدينة و مواقعها السياحية .
اكتشفنا عالما جديدا يختلف سكان نهاره عن سكان ليله و قاطني ضواحيه يختلفون عن قاطني احيائه المركزية وتذكرت نظريات رواد علم الاجتماع و الاقتصاد حول الهامش و المحيط و المركز و احزمة البؤس و الفقر والحي الراقي و استرجعت الروايات والقصص عن احياء مونبارناس و باربيز و سان دوني وكنيسة القديسة نوتردام وقوس النصر و برج ايفل و متحف اللوفر.
بعد قضاء أسبوع قررنا الرحيل لدولة مجاورة …حزمنا حقائبنا و اتجهنا عبر الميترو الى محطة شمال باريس واستقلنا القطار الى بلاد لغة الفلامو ….وصلنا عصرا و ركبنا سيارة اجرة سائقها تونسيا ، بعد تبادل اطراف الحديث معه اقترح علينا مأوى بقلب المدينة صاحبته مغربية ، وافقنا دون تردد.
دخلنا المأوى محيطه الخارجي لا يوحي بمنظره الداخلي ، كانك بحديقة ماجوريل بمراكش مع اختلاف المكان و الزمان …مخيلتنا تبحث فقط عن الجسد المغربي و اختزلت فيه كل شساعة الفضاء …بمقصف مقهى المأوى علقت اشياء تحمل الجنسية المغربية ….براد فضي …طاجين طين …صينية نحاس …خميسة … واشياء اخرى اضفت على المكان نكهة خففت من ثقل الغربة علينا .. فجأة خرج علينا شخص مفتول العضلات يعرض علينا تلبية الخدمة المطلوبة… اقامة ….وجبة …. مشروب ..قاطعناه ….سائلين عن صاحبة المأوى ….مستغربا السؤال …اشار ببنانه لسيدة في عقدها الخامس تتوسط مسطبة المقصف … اتجهنا نحوها وباحساس وفراسة واجهتنا …انتم من لبلاد من الموغريب ….أجاب صديقي نعم لالة ..اشارت لنا بالجلوس بجانبها و طلبت مشروبا باردا و حلوى …و امرت بإعداد غرفة لنا وتحضير وجبة تليق بالضيوف الجدد ….واعتذرت منا وغادرت المكان و ضربت لنا موعد لليوم الموالي .
بعد تناول وجبة العشاء ، التحقنا بالغرفة المخصصة لنا، و خلدنا للراحة بعد يوم جد متعب .
صباحا رن هاتف الغرفة ، فطوركم جاهز و سيدة المأوى تنتظركم بالفضاء المجاور للمسبح ، استعجلنا الخروج للالتحاق بالمكان المحدد وجدنا سيدة المأوى بجانب طاولة مزركشة بكل ما لذ وطاب كأنها اعدت لضيوف الرسميات ، قامت من مكانها وقدمت تحية ببروتوكول غربي ، مرحبا بكم معكم ” كبيرة ” قدمت نفسي و قدم سعيد نفسه ، انغمسنا في اطراف الحديث و تناول وجبة الفطور ، تكلمنا عن المغرب
و طيبوبة سكانه و عرجنا على سيرة ذات كل منا وكانت المفاجأة ان ” كبيرة ” سيدة المأوى مسقط راسها من نفس قريتي ، اصبح الحديث ثنائيا بيننا و ملأ صديقي اقصاءه من الحديث بتتمة كتابه الذي ظل يرافقه طوال سفره . تبادلنا الحديث عن ذكريات الطفولة بالقرية ، المدرسة والمعلم سي علي ، الحاج علال و زوجته الشريرة ، حصان عمي امبارك و بقرة لالة عبوش و الموسم السنوي و الشيخة ام العيد …. هنا استوقفتني ” كبيرة ” وتغيرت ملامح وجهها كأني لامست شيئا مهما في حياتها ، يا “علي” هذه السيدة غيرت مجرى حياتي راسا على عقب ، اندهشت لكلامها وتركتها تسرد حكايتها.
في سن الخامسة عشرة غادرت كرسي الدراسة و التحقت بخالتي التي كانت تعمل بالمدينة المجاورة لمساعدتها في تربية ابنتها من طليقها ، خلالها تعرفت على السيدة ” عيدة ” جارة خالتي التي كانت شيخة باحد ملاهي المدينة والتي اجتذبتها شخصيتي و جمالي و استقامة عودي ، فكان كلما غابت خالتي تسطحبني معها للملهى ، اجتذبني الجو هناك …الحرية …اللامبالاة….الموسيقى ….المرح ……واشياء كنت افتقدها في حياتي .. .داومت على زيارة المكان ، كنت كلما انفردت ببيت خالتي احاول تقليد حركات و غناء ” عيدة”.
غادرت بيت خالتي لخلاف بيننا بعد معرفتها بعلاقتي بالجارة ” عيدة ” التي اقمت عندها مؤقتا ، وصل الخبر لاسرتي بالقرية.
في زيارة عابرة للقرية للاطمئنان عن صحة والدتي المريضة ، واجهني والدي بسيل من الأسئلة كأنما عاش معي طيلة رحلتي التعيسة ، وكانت كلماته ” اخرجي علينا شوهتينا مابقى عندنا فين نعريوا وجوهنا قدام لقبيلة ، ماعنديش البنت لي تولي شيخة ” غادرت المكان ، ركبت اول سيارة اجرة في اتجاه المدينة و عيون الركاب التي تنتظر اجوبتي حول حالتي الهستيرية تلاحق سيل دموعي التي بللت صدري.
لازمت بيت ” عيدة ” و مرافقتها للملهى الليلي ، اصبحت ” كبيرة ” وردة الملهى ، غيابها كساد و حضورها مدخول وافر.
استأنست بالمكان و اصبحت اقدم وصلات غنائية بنغمات غربية ، هندية ، امازيغية ، شرقية …. اثار انتباهي زبون جديد بالملهى يسر على تتبع حركاتي و سكناتي و يصر على ان اقدم له الخدمات شخصيا وا زدادت عملاته من البقشيش مع تقدم الأيام.
في احدى الليالي الممطرة ، اقترح علي المهتم بخدماتي صاحب البشرة البيضاء و الشعر الاصفر واللكنة الغربية المتميزة المتجاوز لخمس عقود عمرا ، ان يحملني بسيارته لمنزل ” عيدة ” وافقت دون تردد لصعوبة الحصول على سيارة اجرة في هذا الوقت المتأخر من الليل و الجو الماطر.
في طريقنا وبدون سابق توطئة اخبرني انه معجب بي و يريد اصطحابي الى بلده بالخارج حيث يملك مأوى و ملهى ليلي ، امام ضغط الظروف الاجتماعية ، اعتبرتها فرصة العمر ووافقت دون تفكير او تردد.
انتقلت الى القرية ، انجزت الوثائق المطلوبة و اسئلة مقدم و شيخ الدوار تحاصرني و كلمات والدي لازالت عالقة بذاكرتي و صورة امي طريحة الفراش تألمني.
أعددت جبلا من الوثائق انجزت جواز السفر و اجراءات الرحيل و تم السفر.
استلمت عملي الجديد ، حاولت التأقلم و التكيف مع ظروف العمل ، اصبحت سيدة المأوى بعد ان خبرت تقنياته بمساعدة “ميسيو جورج ” الذي ادركت انه فقد زوجته في حادثة سير مروعة اثناء عودتها الى البيت في ليلة ممطرة عاصفة.
توالت الايام ، داع صيت المأوى و الملهى وانتشر اسم ” كبيرة ” والمأكولات المغربية ، خصوصا الكسكس و الطاجين.
ليلة عيد الفصح وبعدما غادر الكل الملهى اقترح علي ” ميسيو جورج ” الزواج ، ترددت لكن الحاحه ارغمي على الموافقة.
انتقلنا الى القنصلية المغربية لاستصدار الوثائق المطلوبة ، اتممنا الاجراءات وتم الزواج الاداري و الشرعي.
بعد مرور خمس سنوات اصيب زوجي بمرض عضال لم ينفع معه علاج …غادر لدار البقاء.
خسرت العائلة و خالتي و عيدة و القرية و زوجي وبقي المأوى و ذكريات الماضي.
أتم سعيد قراءة الكتاب الرفيق و التف نحل كثير على عسل مائدة الفطور وقررنا وداع ” كبيرة ” والمكان و العودة الى ارض الوطن في صباح اليوم الموالي.
الصويرة 2020/09/17