ما حدث خلال يومي 24 و25 يونيو 2023 في روسيا يثير سلسلة من التساؤلات، أهمها هل كان من الممكن تصور وقوع تمرد عسكري في دولة تتوق بما تملكه من إمكانيات إلى أن تتقاسم الزعامة مع الكبار في عالمنا المعاصر؟
صحيح أن تمرد قوات فأغنر المفروض أنها قوة روسية ولو كانت مستقلة عن الجيش النظامي، قد أمكن إيقافه وإغماده دون إراقة دماء وإعفاء قائدها أوجيني بريغولين ، ومنحه اللجوء في بلاروسيا التي توسط رئيسها ألكسندر كوكاشينكو لإنهاء التمرد. بيد أن عواقب ومضاعفات تمرد تلك القوات على الوضع في الإتحاد الروسي ستظل تهدد نظام بوتين في تماسك مكوناته، وتشكك في قدرة القيادة الروسية على ضبط شؤون البلاد، وفي إمكانيات أن يظل بوتين متحكما في دواليب الدولة، كما كان يبدو عند نشوب الحرب في إوكرانيا ٠ ويدخل تمرد قوات فاغنر ضمن الأحداث التي صاحبت هذه الحرب والتي لا بد أن تؤثر على مجراها.
إنه بحكم كون قوات فاغنر أنشئت لتكون رديفا للقوة النظامية الروسية ، وليس جزء منها ، فقد يكون الهدف من إستعمالها يتمثل في التملص مما قد ترتكبه من تجاوزات في أوكرانيا لقهر المقاومة الأكرانية ، حتى لا يوصم جيش الدولة الروسية بعار إرتكاب أية أعمال إجرامية ممنوعة في الحروب ، تستوجب محاكمة قادة روسيا أمام القضاء الدولي ، الذي أنشئ لهذا الغرض ٠ لكن كيف يمكن إعفاء هؤلاء القادة من متابعات قضائية ضدهم ، وقد سمحوا بتكوين قوة غير نظامية وضمنوا تموينها ووفروا لها إمكانيات التدخل في إطار الخطة الحربية التي يجري تطبيقها في أوكرانيا.
إن تمرد قوات فاغنر في عقر دارها بروسيا، وضد النظام الذي أوحى بتكوينها، ينذر بما يمكن أن تتعرض له الدول الإفريقية التي تستعين بها، من مخاطر على أمنها وسلامتها ٠ فإذا كانت السلطات الروسية قد إستطاعت أن تخمد تمرد قوات فاغنر على أرضها، فكيف يمكن لها أن تتحكم فيها وهي على بعد آلاف الأميال من مكان وجودها في إفريقيا؟ ثم هل ستكون السلطات في الأقطار الإفريقية قادرة على كبح جماح قادة تلك القوات إذا ما طغوا وتجاوزوا حدود ما تفرضه تلك السلطات، ووفقا لما تم الإتفاق عليه مع قادة روسيا؟
هذا ويمكن الإعتقاد بأن تمرد قوات فاغنر كان بمثابة تعبير عن المعارضة التي تواجهها الحرب على أوكرانيا داخل روسيا. وطبيعي آن تصبح هذه الحرب الظالمة محل تنديد من الرأي العام الروسي لما تكلفه من الخسائر المادية والمعنوية، ولما ألحقته من أذى بسمعة الدولة الروسية.
لقد كان فلاديمير بوتين يظن أنه ذاهب إلى نزهة بغزوه لأوكرانيا ، واعتقد أنه سيحقق لروسيا المكانة التي وعد الروس بها ، أي جعل روسيا مؤهلة لتحتل المكانة وتسترجع النفوذ اللذين كان الإتحاد السوفياتي المنهار يتمتع بهما ، وذلك بحكم كون موسكو كانت قطب الرحى في ذلك الاتحاد ومنها كان يستمد قوته . ولقد إغتر بما أعده من قوات وما عبأه من إمكانيات لغزو أوكرانيا ، ودخل الحرب بدعوى فك الحصار الذي فرضه الغرب على روسيا . لكن الهدف الحقيقي كان على ما يبدو التحكم في أوكرانيا واستغلال إمكانياتها وثرواتها لفرض هيمنة روسيا كقوة عظمى . ويبدو أنه استهان بقدرة الشعب الأكراني وقيادته على الصمود والمقاومة .
فمن كان يتصور أن المقاومين الأوكرانيين سيتمكنون من شل تحرك القوات الغازية وتحطيم ذلك الرتل من الآليات والمصفحات التي إمتدت المسافة التي أصطفت فيها على طول ستين كيلوميترا، وكانت قد تقدمت في تراب أوكرانيا لتزحف على عاصمتها والإطاحة بنظامها والتحكم في مصيرها؟
ومن كان يتخيل أن المقاومة الإكرانية ستصمد كل تلك الفترة التي قاربت الآن سنة ونصف؟
الواقع أن فلاديمير بوتين لم يكن يظن أن الغرب بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية وعموم أروبا وليس فقط دول الإتحاد الأروبي، ستجمع على مساندة أوكرانيا ماديا ومعنويا بكل ما تملكه من إمكانيات
إن ما تخلل الأحداث التي صاحبت الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا يعتبر درسا وعبرة لكل من يتخيل أن القوة ، مهما تكن ضخامتها ، قادرة على قهر الدول المعتزة بشخصيتها والمستعدة للدفاع عن ترابها. وإذن فعلى قادة الجزائر ، وهم يلوحون ويهددون بفرض إرادتهم في المنطقة المغاربية ، أن يتعظوا بما قدمته الحرب الأوكرانية من دروس وعبر. وأقول ذلك إعتبارا لما يتباهون به من الأسلحة التي كدسوها وما يعتزمون إمتلاكه ويسعون إلى إقتنائه منها ، بهدف إستعمالها لإنهاء الإستعمار في آخر مستعمرة في إفريقيا يتخيلون وجودها . وهم إذ يتجرأون على الجهر بذلك ، يستهدفون الصحراء المغربية ويسعون عبثا إلى كسب الأنصار إلى جانبهم ليتبنوا إدعاءهم بأن المغرب يحتل الصحراء ، ويدعون أن الوااجب يفرض عليهم تحريرها بصفتهم القوة العظمى والمحورية في القارة الإفريقية ، وبدعوى الإخلاص للمبادئ المفترى عليها .
سيستخلص القادة الجزائريون الدروس والعبر مما حدث في أوكرانيا، عندما ينبعث من بينهم حكماء وعقلاء يميلون إلى الخير ويحسنون التدبير.