الديبلوماسية المغربية من خلال الدينامية التفاعلية المتميزة و التعامل بمبدأ الواقعية السياسية مع القضايا الثنائية و الإقليمية و القضايا الكونية الأخرى المتعددة الأطراف، أظهرت أنها بإشتغالها وفق الرؤية الملكية المتبصرة أصبحت تمتلك رؤية دقيقة و تحليلا عميقا و فهما متوازنا للوضع الجيوستراتيجي و طبيعة التوازنات الدولية في عالم يعج بالصراعات و التدافع الجيوسياسي و تتغير فيه التحالفات و التخندقات و موازين القوى بشكل متسارع و غير متوقع خاصة بعد الإنعكاسات الخطيرة للحرب الروسية – الأوكرانية على السلم العالمي و كذا سلاسل الإنتاج الغذائية و تأثيرها المباشر على جهود التعافي من التداعيات المدمرة لجائحة كورونا أو في المجهودات الدولية لمحاصرة التغير المناخي و البيئي كأحد أهم المخاطر التي تهدد الإنسانية جمعاء أو في مجال العمل الجدي على تحقيق أهداف التنمية المستدامة كأحد الإجابات الأممية لإشكالات الكوكب التنموية .
الرسائل التي التي بعثت بها الديبلوماسية المغربية في السنوات الأخيرة إلى مختلف المحاور الدولية ، و التي أعادت تحديد المعايير المحددة للعقيدة الديبلوماسية للمملكة المغربية التي تنهل من التراث الديبلوماسي المغربي العريق و المبادئ و القوانين و الأعراف الدولية إلتزاما بالمواثيق الأمم المتحدة و القانون الدولي الإنساني ، و بالتالي فالرباط تتمسك بقدسية إحترام سيادتها الوطنية و إعتبار الوحدة الترابية للمملكة خطا أحمرا يحدد طبيعة علاقتها مع الشركاء التقليديين أو الجدد و الإصرار على عدم التدخل في شؤونها الداخلية تحت أي مبرر أو الوصاية على إختياراتها السيادية و إنخراطها الجدي و المسؤول في تنزيل رؤيتها الواضحة لطبيعة علاقاتها المستقبلية مع العالم وفق الدوائر التي تشكل مجال إهتمامها سواء الدائرة الإقليمية بتحدياتها المرتبطة بإشكاليات الأمن و الإستقرار في ليبيا أو تنامي الخطر الإرهابي و الجماعات الإنفصالية المسلحة في الساحل الإفريقي و تداعياتها على ملفات تشتغل عليها الديبلوماسية المغربية بهدوء على مستوى الدائرة المتوسطية و الأوروبية أو الأطلسية كتدبير ملف الهجرة و حقوق الإنسان و التنسيق في مجال مكافحة الإرهاب و تحقيق الإستقرار الإقليمي و تطوير العلاقات الإقتصادية و التجارية و دعم و مأسسة الفرص الإستثمارية الواعدة التي يوفرها المغرب لباقي شركاءه الأوروبيين و الأطلسيين وفق إلتزام مغربي و رغبة أكيدة في تطوير علاقاته الثنائية مع باقي دول العالم بمبادئ الشراكات الناجعة و التكامل الإقتصادي لخدمة القضايا الشعوب و الإنسانية جمعاء .
و في هذا الإطار تندرج زيارة السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية و التعاون الإفريقي و المغاربة المقيمين بالخارج إلى جمهورية ألمانيا الإتحادية و لقاءه الرفيع المستوى مع السيدة أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية و الذي توج الدينامية الديبلوماسية الفاعلة و التطابق في وجهات النظر بين المغرب و ألمانيا في العديد من الملفات المشتركة سواء البينية أو الإقليمية و الدولية .
رسالة الرئيس الألماني السيد فرانك-فالتر شتاينماير إلى جلالة الملك محمد السادس و التعليمات الملكية السامية الداعية إلى العمل على ترسيخ جسور التعاون مع ألمانيا في أفق جعلها شريكا إستراتيجيا للمملكة المغربية يحظى بأولوية خاصة بالإضافة إلى التاريخ الديبلوماسي العريق بين البلدين كانت من المرتكزات الأساسية التي إعتمد عليها البلدان لصياغة الإعلان المشترك المغربي – الألماني بتاريخ 25 غشت 2022 على إثر الزيارة الناجحة التي قامت بها السيدة أنالينا بيربوك وزيرة الخارجة الألمانية إلى المغرب ، الإعلان المغربي- الألماني يمكننا إعتباره خارطة طريق واضحة المعالم لبناء علاقات ثنائية راسخة مبنية على مبادئ قوية ومتينة من الوضوح و الثقة والقائمة على أسس متجذرة من المصالح المشتركة والإحترام المتبادل ، و يقدم نموذجاً واقعيا للعلاقات المتطورة بإستمرار وفق آليات جديدة كإطار مرجعي شاملا لهذه العلاقات ب 6 محاور إستراتيجية تشمل الحوار الإستراتيجي و التعاون الأمني و سياسة المناخ و التعاون من أجل التنمية و التعاون الإقتصادي و الثقافة و التعليم و البحث العلمي تتضمن 59 توصية وقرار عبر بنود متوافق عليها .
حيث إتفق المغرب وألمانيا أثناء هذه الزيارة على إطلاق الحوار الإستراتيجي المتعدد الأبعاد كأحد أهم مخرجات الأعلان المغربي الألماني الذي سيشكل الإطار المرجعي للسير قدما في تمتين العلاقات الثنائية وسيعزز التوافق البيني في مختلف مجالات التعاون الثنائي، إقامة هذا الحوار الإستراتيجي بين المملكة المغربية وجمهورية ألمانيا الإتحادية يجسد الرغبة المشتركة في تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والإنسانية بين البلدين، و يقوي دعامات الديمقراطية ودولة الحق و القانون والحكامة الجيدة ، وتهدف هذه العلاقات إلى تعزيز التجارة والإستثمارات وتعزيز التعاون في مجال السياسة المناخية وسياسة التنوع البيولوجي، بالإضافة إلى الاهتمام بالحلول الطاقية الخضراء.
زيارة السيد وزير الخارجية ناصر بوريطة إلى ألمانيا تنطوي على أبعاد و دلالات إستراتيجية مهمة تتعلق بالتوجهات الجديدة للسياسة الخارجية المغربية التي أعادت ترتيب منطلقاتها التقليدية و إعادة ضبط المواقف الدولية من قضية الوحدة الترابية بإعتبارها ” النظارة التي ينظر منها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات ” و عليه فإن توضيح ألمانيا موقفها من قضية الصحراء المغربية بشكل لا يقبل التأويل و تحديد التأكيد على أن مبادرة الحكم الذاتي تعتبر مجهودا جادا و ذو مصداقية من قبل المملكة المغربية و الحل الأساس و الجيد جدا للتوصل إلى حل مقبول من كل الأطراف ؛ يتوافق مع الرغبة المغربية الصادقة لتطوير العلاقات مع الشريك الألماني إلى أبعد الحدود الممكنة في إطار شراكة ناجعة و قوية ترسخ لمحور إقليمي جديد بين الرباط و برلين على أساس التكامل الإقتصادي و تقديم نموذج رائد للتعاون شمال – جنوب على أساس رابح – رابح .
نتائج زيارة السيد ناصر بوريطة إلى ألمانيا أظهرت مدى التوافق الثنائي حول مجموعة من القضايا القضايا الإقليمية والدولية خاصة فيما يتعلق بشأن الوضع في ليبيا ومنطقة الساحل والشرق الأوسط، و كذا بتوحيد الجهود بشأن مكافحة التطرف والإرهاب و الهجرة ، فتوقيع إتفاق التعاون الأمني في 1 مارس 2016 بين السلطات الألمانية والمغربية لمكافحة مختلف أشكال الجريمة العابرة للحدود وخاصة الإرهاب و الهجرة الغير شرعية وتهريب البضائع والجريمة المنظمة و الإرهاب الدولي حيث تم وضع آلية مرجعية للتعاون الأمني المغربي الألماني، هذا التعاون جنب ألمانيا هجمات إرهابية دموية تحديدا في سنتي 2016 و2018 بسبب معلومات دقيقة وفرتها المصالح الأمنية المغربية عن مجموعات متطرفة تنشط داخل العمق الألماني.
من جانب آخر يعتبر التعاون المغربي-الألماني في مجال الهجرة مثالا يحتذى به على المستوى الإقليمي والدولي سواء تعلق الأمر بمكافحة الهجرة غير النظامية أو إدماج المغاربة المقيمين بألمانيا،أو التنسيق والتشاور وتبادل الخبرات والتجارب على مستوى سياسات الهجرة.
يعكس هذا التعاون التزام كل من ألمانيا والمغرب بالتدبير المشترك لمختلف جوانب هذه القضايا ذات الطابع الاستراتيجي بالنسبة للبلدين وفق تصور مشترك واضح و مسؤول ينطلق من المقاربة المغربية للهجرة التي تتطلع لبلوة حلول شمولية بمقاربات حقوقية و إجتماعية و إقتصادية متعددة الأبعاد تشمل التنسيق الأمني المشترك في مجال مكافحة الهجرة غير النظامية والإتجار في البشر.
الإطار التاريخي للعلاقات المغربية – الألمانية يشكل أحد أهم المرتكزات التي يعتمد عليها البلدان من أجل الدفع بهذه العلاقات إلى مستويات غير مسبوقة ترجمته إطلاع السيد ناصر بوريطة والسيدة أنالينا بيربوك، على الوثائق الدبلوماسية الأصلية المحفوظة في الأرشيفات السياسية لوزارة الشؤون الخارجية بألمانيا ، ويتعلق الأمر بوثيقة مغربية مصادق عليها مؤرخة بتاريخ 28 مارس 1891، تمت إضافتها إلى معاهدة التجارة الألمانية-المغربية المؤرخة بتاريخ 1 يونيو 1890 و برسالة بعثها السلطان الحسن الأول في مارس 1874 إلى الإمبراطور ويليام الأول، رداً على أوراق إعتماد أول وزير ألماني مقيم في المغرب السيد فريدريش فون جوليش و أوراق إعتماد الممثل الخاص للمغرب في ألمانيا سيدي الطيبي بنهيمة التي يعود تاريخها إلى سنة 1878.
في نفس السياق التاريخي فإن علاقات الصداقة التاريخية بين المغرب وألمانيا “الغربية” أو الإتحادية في الأمس القريب جدا عرفت مواقف جد مشرفة للمملكة المغربية في بداية الستينات عندما كان المغرب من بين ثلاثة بلدان عربية (إلى جانب تونس وليبيا) التي حافظت على علاقتها الوثيقة بألمانيا الإتحادية في مواجهة المقاطعة العربية التي قادتها مصر الناصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الدول التي كانت تدور في فلكها كسوريا و العراق و الجزائر .
كما أن المملكة المغربية كانت من البلدان العربية القليلة التي إلتزمت “بمبدأ هالشتاين” الذي سمي على إسم الأكاديمي والتر هالشتاين أحد منظري السياسة الخارجية لألمانيا الغربية في سنوات ما بعد الحرب و كان أحد المبادئ الرئيسية التي تشكل السياسة الخارجية لجمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) من عام 1955 إلى عام 1970 فقد نص على أن الجمهورية الألمانية الفيدرالية لن تقيم علاقات دبلوماسية مع أي دولة تعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية (ألمانيا الشرقية ) .
هذا الموروث التاريخي المتميز يشكل حافزا قويا لذا البلدان للعمل سويا على تعميق أفق العلاقات الثنائية و تمتينها خدمة للقضايا المشتركة بين الجانبين .
ختاما تسير الشراكة الاستراتيجية بين المملكة المغربية وجمهورية ألمانيا الاتحادية بخطوات ثابتة نحو التطور المستمر، وتشكل إضافة نوعية إلى الإنجازات التي تم تحقيقها في السنوات الماضية، مما يعكس أهمية هذه الشراكة وحرص البلدين على تعزيزها في مختلف المجالات. وقد يتعدى هذا التعاون المجال الإقتصادي إلى المجالات الإنسانية والثقافية والتعليمية، ويؤكد الإعلان الألماني المغربي المشترك على آفاق الشراكة الإستراتيجية بين الدولتين في المستقبل، وخاصة في مجالات الطاقات المتجددة والاقتصاد المستقبلي، ما يعزز الأبعاد الحضارية والشعبية للشراكة حيث ستواصل الدولتان العمل سويًا لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، مما يبرز دورهما في المساهمة بشكل كبير في السلم والاستقرار الإقليمي.