الطبيبة فتيحة وروح القوانين و غاياتها
بدت عليها علامات النباهة و الذكاء منذ نعومة اظافرها ، كان ميلادها فاتحة خير على والديها ولم يكن اطلاق اسم ” فتيحة ” عليها صدفة ، كان يوم ولادتها ممطرا بعد جفاف و قحط دام ثلاث سنوات متتالية ، تميزت تربيتها و رعايتها باليسر بشهادة كل من خالطها بالبيت و الروض و المدرسة و الاعدادية والثانوية ، ظلت عالقة بقلوب من عرفها طفلة و تلميذة و طالبة ، تفوقت في دراستها لحد التميز و التألق ، اساتذتها يفاخرون بها لدرجة انهم جعلوا تدريسهم لها وسام فوق صدورهم يزكي علو كعبهم . ولجت مهنة كانت منذ صغرها تحلم بها وتردد كلما وجه لها سؤال ” ماذا تريدي ان تصبحي في المستقبل يا فتيحة ” ترد دون تردد ” طبيبة ” .
حققت فكرة ” مستقبلي هدفي ” ، تخرجت من كلية الطب و الصيدلة بامتياز وعملت بعدة مستشفيات كطبيبة داخلية تم طبيبة مقيمة بعد نجاحها في تخصص طب الاطفال ، اخلصت في عملها و تميزت بحسها المهني و الأخلاقي الرفيع و رسمت ابتسامات على افواه الاطفال كما الامهات .فالتميز و التألق له نتائجه الايجابية ، كما ان له اعداء و مناهضين ، تلك حالة ” فتيحة ” واجهت المكائد و حبك المؤامرات ، لكن صبرها و تجاهلها و خدمتها للابرياء من الاطفال كان حافزا لها لمواصلة العمل و الاخلاص فيه و الوفاء لقسم ابو قراط .تعرضت للكثير من الضغوطات و المكائد من زملائها و زميلاتها في المهنة و العاملات معها وكانت في كل مرة بحكم حسن نيتها و صفاء سريرتها تسلم جرتها . في احدى الليالي الممطرة وحوالي الساعة الثانية صباحا تلقت مكالمة هاتفية من الممرضة المداومة بجناح طب الاطفال ، طالبة منها الالتحاق بالمستشفى ، حالة ولادة قيصرية والمولود من الخدج في حالة اختناق ، لعلها حالات تعودت عليها ” فتيحة ” بحكم تخصصها و تدبيرها للمصلحة منذ سنوات ، انتلقت بواسطة سيارتها الخاصة كالمعتاد في اتجاه المستشفى ، التحقت بغرفة العمليات قامت باللازم طبيا و اطمأنت على حالات مرضاها من الاطفال و استقلت سيارتها عائدة لمنزلها ، بملتقى الطرق وبعد تأكدها من اسبقية المرور لاشتعال الضوء الاخضر انطلقت لتفاجئها من الجهة المحادية سيارة قادمة بسرعة جنونية وتصطدم بباب سيارتها ، قوة الصدمة جعلتها تصيح مذعورة ، و أغلقت ابواب السيارة باحكام ، ترجل سائق السيارة و مرافقه و توجهوا لها بالسب و القدف و الكلام الفاحش و تاثير الخمرة بادي عليهما ، هدفهما احراجها لدفعها لمغادرة المكان لعلمهما بان القانون ليس بجانبهما ، احست بالإهانة ولم تقوى حتى على الاتصال بالنجدة زيادة على انها لا تتذكر لا نوع السيارة ولا رقم لوحتها لتقديم شكايتها بالمعتدين الذين غادرا المكان قبلها .احساسها بالظلم و سوء المعاملة لم يقلل من عزمها على مواصلة عملها النبيل وركوب المخاطر .
تكررت عدة مواقف مماثلة جعلتها اكثر صلابة و قوت من عزيمتها في الحرص على اداء واجبها بتفان قل نظيره و بشهادة مسؤوليها و مرتفقي مصلحتها .كعادتها توصلت بمكالمة ممرضة المداومة عصرا للالتحاق بالمستشفى عاجلا لتواجد حالة مستعجلة ، ارتدت وزرتها و انطلقت مسرعة بسيارتها ، فاجأها شرطي المرور وأشار عليها بالتوقف ، استجابت لامر و توقفت ، توجه اليها طالبا اوراق السيارة ، أخبرته انها طبيبة و انها متوجهة للمستشفى لامر مستعجل ، لم يعرها اي اهتمام .هاتف الخدمة يرن لاستعجالها بالحضور للمستشفى ، التمست من جديد من الشرطي السماح لها بالمغادرة لكون الامر مستعجل ، رفض ، ناولته اوراق السيارة و ترجلت من سيارتها و استقلت سيارة اجرة في اتجاه المستشفى ، تركت السيارة و اوراقها للشرطي للقيام بواجبه . بالمستشفى كانت حالة طفل في سنه الثانية يعاني حمى مفرطة ، فحصته وقدمت له الدواء و طلبت من الممرضة تتبع حالته ، و قامت بجولة لمراقبة الاطفال المرضى نزيلي المستشفى و استقلت سيارة اجرة في اتجاه مكان السيارة ، انجز لها الشرطي مخالفة السير وناولها المحضر و ادت الغرامة و استلمت اوراق السيارة و غادرت المكان في اتجاه بيتها .بعد مرور اسبوع على الواقعة ، كانت الطبيبة ” فتيحة ” تستقبل مرضاها من الاطفال صحبة ذويهم للفحص الطبي ، اثار انتباها صوت بالخارج ، سالت الممرضة المكلفة بالتنظيم و ضبط احترام الصف ، اجابتها بان شخصا رفقة ابنه و زوجته رفض احترام الصف ، رمقت المعني بالامر من النافذة ، فتبين لها انها تعرفه لكن لم تتذكر من هو بالضبط .اصر على الدخول عند الطبيبة لكون ابنه بلع شيئا صلبا عالقا بحنجرته ، فضول الطبيبة منعها من التركيز في عملية الفحص ، غادرت مكتبها و خرجت لمعرفة هوية ذلك الشخص، فأذا به شرطي المرور ، طلبت من زوجة الشرطي مصحابتهاو ابنها لقاعة الفحص ، استخرجت قطعة نقدية صغيرة من بلعم الطفل و سلمت امه دواء من خزانة مكتبها لعلاج الحنجرة ، عاطفة الشرطي و خوفه على وحيده لم تسعفه ، تجاوز صفوف المرضى وهم بفتح مكتب ” فتيحة ” ليفاجىء بكون الطبيبة هي من اوقفها و هي مستعجلة للمستشفى ، طلبت منه الطبيبة الجلوس ، كان محرجا ، فوجهت له سؤالا نزل عليه كالصاعقة ” تصور يا سيدي لو كان المستعجل من أجله هو ابنك ، كنت اوقفتني و ضيعت حياته ، فاستعجالي للمستشفى كإستعجال سيارة الاسعاف منحها القانون حق الاسبقية و دون الزامها بتحديد السرعة حفاظا على سلامة المرضى ، وانا كنت استعمل سيارتي الخاصة و اخاطر بحياتي من اجل ذلك ، الحمد لله على سلامة فلذة كبدك و طلبت منه و زوجته الانصراف و الانتباه لابنهم مستقبلا ” .
غادر الشرطي و زوجته وابنه المكان و في ذهنه اشياء كثيرة وكلاما لم يقو حتى على البوح به ل ” فتيحة ” التي تأكدت ان الدنيا ستظل بخير لو حكمنا اشياء خيرة بدواخلنا و استشعرنا الغاية من كل القوانين و النظم و حضرت انسيتنا ، فشرطي المرور جسد كل هؤلاء الذين يتحملون مسؤولية خدمة المواطن طبيبا او مهندسا او معلما او…… و صاحب السيارة المخمور و رفيقه جسدا مطبات و عقبات ومخاطر الحياة ….وتستمر الحياة لترسم الابتسامات على وجوه بني البشر و تمسح دموع الأسى بفعل الخير .