أوراق من الذاكرة
كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا، إنه الوقت الذي يستفيق فيه كل يوم، حتى في أيام عطلته، حتى صارت أيامه تتشابه. فقهوته وسيجارته لهما حب خاص، وموعده معهما لا يخلفه أبدا، تمنى لو كانت حياته قيست على هذا النحو، وبُرمجت بهذا الشكل الدقيق، وهذا اللقاء المضبوط بينه وبين معشوقته السوداء وعلبة السيجارة، كثير من الأمور ستكون أفضل مما كانت عليه.
كانت أول أيامه، بهذه المدينة الجميلة، قلب البلد النابض، حيث كل شيء هنا، التاريخ والعراقة والبحر والنهر. إنه أول صباح رسمي، يوم عمل جديد هنا في هذه المدينة، التي غادرها قبل عقدين من الزمن، حين رحل باحثا عن أفق آخر، عن وجهة جديدة وحياة أخرى أرادها على مقاسه وحسب رغبته. اليوم، يستفيق هنا، في مدينة تحمل الكثير من الذكريات بين أزقتها، والكثير من الأحلام في سمائها، هي أحلام الشباب ورغبة جامحة في تحقيقها.
أطفأ المنبه، ونظر إلى الخارج، وهو الذي يكره الأماكن الضيقة، يحب الشرف والأماكن العارية، صفة ليست غريبة على ابن القرية والمزارعين، فهي بكل تأكيد تذكير بالصبا والطفولة في البادية والحقول. نظر إلى السماء من خلال زجاج النافذة وكأنه يسأل السماء عن ما يلج في صدره، لعله يجد إجابات عن أسئلة تثقل كاهله. نهض من سريره، ودخل الحمام ليغتسل، قبل لقائه الحميمي مع الفنجان والسيجارة.
اخذ سيجارته وقهوته وأشعل التلفاز، وخرج للشرفة يستنشق هواء الصباح الآتي من أعماق المحيط، نسيم ممزوج بغبار السيارات، لكنه يعشق الصباح وأخبار الصباح، ثلاثة أشياء لا يمكن الاستغناء عنهم، القهوة والسيجارة والأخبار، يعرف جيدا أنهم كلهم وبدرجات متفاوتة مضرون للعقل والجسم لكن لا يمكنه التخلي عنهم.
أطل من الشرفة حاملا فنجان القهوة والسيجارة التي يلتهمها بشكل غريب وكأنه يشكي لها مآسيه، وراح ينظر للناس وهي تتحرك يمينا وشمالا متجهة نحو العمل أو بحثا عن الحليب والخبز الساخن لفطور الصباح. أشياء تذكره بسنين مضت، حين كان يعيش هنا بأحد الأحياء الشعبية كسائر الطلاب الآتين من بعيد، عادت سنين الدراسة لتغطي تفكيره، لكنه قاطعها وعاد إلى الداخل ليستمع للأخبار قبل أن يخرج في أول أيام عمله.
يعرف جيدا أن الأخبار تعكر مزاجه، لا شيء يسعد على هذه الأرض، حروب ومجاعات وتهجير وخوف… لكن رغم إحساسه بجسده مثقل وخطاه ثقيلة جدا، لكن عليه أن يخرج، عليه أن يواصل العيش. فالحياة لا تتوقف، فقد سارت الحياة في أوقات كثيرة بسرعة البرق وأحيانا بثوان مملة، وهو هنا يكابر ثقل هذه الأرض وأحيانا يتساءل من منهما يحمل الآخر هو أم الأرض؟
فحين تدير لك الحياة ظهرها، كل شيء يتوقف، حتى النوم يتخلى عنك ويتركك في الظلام وحدك، تنظر في الفراغ، تنظر إلى جدران سوداء، والذكريات المشئومة لن تجد أفضل من هذا الوقت لتزورك، وتتفتح عيناك جيدا ويعود شريط الحياة أمامك، وتتمنى لو تغمض عيناك ولو لدقائق، لكنه يرفض ويعاند.
فأحيانا كل الأشياء البسيطة التي تعيشها وتعتقد أنها تافهة هي في حقيقة الأمر، أفضل بكثير من الأشياء التي برمجت لها وبعناية فائقة وقضيت عمرا طويلا تجري ورائها دون كلل. لقد عشق الصدف وما جناه منها من سعادة، حتى أصبحت جزء من كيانه ووجوده لأنه عشقها دون تفكير مسبق.