ذ.سليمة فرجي/
لقد اعتبرت الحكومة انه يصعب في كل مرة مناقشة مقتضى من مقتضيات القانون الجنائي، و ما كان يعاب على الحكومة السابقةهو عدم وضعه بشكل كامل على أنظار البرلمانيين لمناقشته في شموليته، وقررت سحبه من البرلمان .
فعلا خلال الولايتين البرلمانيتين السابقتين، خصوصا الولاية ما بعد دستور 2011 تم عرض عدة مشاريع قوانين تعتبر جزء لا يتجزأ من القانون الجنائي و تمت المصادقة على بعضها اهمها قانون محاربة الارهاب ومحاربة العنف ضد النساء والاتجار بالبشر…اي تلك التي لها علاقة بالتزامات المغرب الدولية وملاءمة ترسانته القانونية مع التزاماته الدولية ، ولم تتم المصادقة على مشروع القانون الجنائي في شموليته رغم جاهزيته
واذا مرت ستون سنة على صدور القانون الجنائي سنة 1962 ،فان المغاربة يتعطشون الى قانون جنائي يتلاءم مع المقتضيات الدستورية التي رفعت سقف الحقوق والحريات ، اذ يعتبر التشريع الجنائي بشقيه الموضوعي اي مجموعة القانون الجنائي ،والشكلي اي قانون المسطرة الجنائية ،في قمة هرم القوانين اللصيقة وذات الصلة بالحقوق والحريات ،ويعتبر هذا التشريع بمثابة دستور ميداني للمواطن وخارطة طريقه في كل ما هو مباح وما هو محظور ومجرَّم، مع استحضار الخطوات الجبارة التي قطعتها البلاد من اجل تعزيز مكانة الفرد وحريته وكرامته في اطار ديموقراطي
مرت ستون سنة على صدور القانون الجنائي ومرت 11 سنة على دستور2011 وتم عرض مسودة مشروع القانون الجنائي سنة 2016 ولم تتم المصادقة عليه بل تم سحبه في بداية الولاية الحالية
علما ان المشروع المثير للجدل عرف تعثرا انتهى بسحبه ، إما نظرا لغياب ارادة الحسم ،او بسبب التشرذم الايديولوجي والتحالفات الهجينة السابقة ،واما بسبب تصفية الحسابات السياسية،وانفراط عقد الاغلبية الحكومية ، ابان الولايتين السابقتين في ضرب صارخ لانتظارات المواطنين ، والخطابات الملكية السامية ، وفوران المستجدات المتعلقة بالتحولات الاقليمية والتداعيات و الاحداث التي فرضت على العالم كله تحيين بعض النصوص وسن اخرى أملتها ظروف واحداث ومستجدات
لذلك وما دامت الحكومة الحالية تتوفر على اغلبية مريحة وتملك عصمة القانون بحكم اغلبيتها البرلمانية وتم تجاوز التحالفات الهجينة والتشرذم الايديولوجي الم يحن الوقت لتمرير المشروع ؟
الاكثر من ذلك هناك مقتضيات ايجابية اتى بها المشروع المسحوب وهي محل انتظار المواطنين كالعقوبات البديلة التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح التي لاتتجاوز العقوبة المحكوم بها من اجلها سنتين حبساوهي:
1) العمل لأجل المنفعة العامة
2) الغرامة اليومية
3) تقييد بعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية او علاجية أو تأهيلية، علمًا انه مع استثناء بعض الجنح من الاستفادة من العقوبات البديلة ،وهي الاختلاس ، الرشوة،الاتجار في المخدرات، والاستغلال الجنسي للقاصرين
واذا كان تجريم الاجهاض اثار الكثير من الجدل اذ تم رفع التجريم عن حالات الاجهاض اذا نتج عنه الحمل عن اغتصاب او زنا المحارم ، او كانت الحامل مختلة عقليا ، او اصابةالجنين بأمراض جينية او تشوهات خلقية خطيرة، وانه تسبب في خلق نقط الخلاف المؤدية الى تأجيل وضع التعديلات والمصادقة على المشروع رقم 10.16، فان تحريم الاثراء غير المشروع بدوره خلق نقط خلاف بين مكونات الحكومة كشفت عن عدم الانسجام الحكومي والتحالف الهجين الذي أبان غير ما مرة عن عجزه في تمرير بعضالقوانين وإبقائها في رفوف اللجان مثال ذلك المادة 16 من مدونة الاسرة المتعلقة بالبينةالشرعية في ثبوت الزوجية .
واذا كان تجريم الاثراء غير المشروع اثار الجدل فلا بأس ان اشير انه سبق للسيد وزير العدل والحريات السابق الاستاذ مصطفى الرميد أن اخفق و لم يتمكن من تمرير المادة 8ـ256 من مشروع القانون الجنائي، المعروض في الولاية البرلمانية السابقة ، التي تجرم الإثراء غير المشروع وتعاقب بالحبس من سنة إلى 5 سنوات كل موظف ثبت أن ذمته المالية أو ذمة أولاده القاصرين “عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة مقارنة بمصادر دخله المشروع، ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة”، علما ان الوزير السابق كان متشبتا بتمرير هذا المقتضى الذي ينص على عقوبات سالبة للحرية من جهة ويشمل جميع الموظفين من جهة اخرى .
الا ان مجلس الحكومة انذاك أدخل تعديلات أسقطت العقوبات الحبسية، وجعلت الإثراء غير المشروع لا يهم جميع الموظفين العموميين، إنما يقتصر فقط على الموظفين الخاضعين للتصريح الإجباري بالممتلكات،
وتضمن مشروع القانون الجنائي 10.16 الذي كان انذاك في طور تقديم التعديلات من طرف اعضاء لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، فصلا في الفرع الرابع مكرر يجرم الاثراء غير المشروع بمقتضى الفصل 256.8، والذي يعاقب جريمةالاثراء غير المشروع بغرامة من 100.000 الى مليون درهم كل ملزم بالتصريح الاجباري بالممتلكات ثبت بعد توليه للوظيفة او المهمة ان ذمته المالية او ذمة أولاده القاصرين الخاضعين للتصريح عرفت زيادة كبيرة وغير مبررة ،انطلاقا من التصريح بالممتلكات الذي أودعه المعني بالأمر مقارنة مع مصادر دخله المشروعة ،ولم يدل بما يثبت المصدر المشروع لتلك الزيادة .
للاشارة فان مشروع القانون الجنائي المسحوب من طرف الحكومة الحالية احيل على اللجنة منذ 27مايو 2016 بعد جدل بشأنه بالمجلس الحكومي ،وعرف عدة تعثرات واختلاف وجهات النظر ، وان الناطق الرسمي باسم الحكومة انذاك اكد ان ” بلوكاج” مشروع القانون الجنائي يرجع بالأساس الى محاولة تقريب وجهات النظر بخصوص الاثراء غير المشروع ، خصوصا ان القناعات والظروف السياسية التي سادت اثناء الولاية الثانية بعد الدستور ليست هي نفسها قناعات وتوجهات الولاية التي سبقتها ،ومن كان يتشبت بتمرير النص كما قُدم سابقا ،اصبح أكثر تساهلا متحججا بكون النص المقترح المجرِّم للاثراءغير المشروع سيجعل إجراءات التصريح بالممتلكات ذات قيمة فعلية اذ تكون سندا لمراقبة تطور الثروات وعقاب من عجز عن تبرير الزيادة في الثروة بحجج مقنعة .
لكن يبدو من خلال الاطلاع على فحوى النص والتعديلات الواردة عليه انذاك من اجل تجويده وجعله قيمة مضافة للترسانة التشريعية، انها لن تشكل تلك الآلية القانونية المأمولة لتنفيذ مضامين استراتيجية مكافحة الفساد ولن تتمكن من مواجهة استشراءالحالات الواقعية للإثراء غير المشروع، ولعل الأسباب تتلخص في حصر المعنيين بجريمة الاثراء غير المشروع في الملزمين بتقديم التصريح الإجباري بالممتلكات فقط ،وان هذا التصريح هو وحده المعتبر مصدرا حصريا لمعرفة الزيادة ، دون الخوض في مستندات اخرى والاستعانة بمؤسسات رسمية ، ناهيك عن التقزيم البين والحد من سلطات و دور النيابة العامة باعتبار المجلس الاعلى للحسابات هو الجهة الوحيدة المخول لها حصريا اجراء التحقيقات لرصد تطور الثروة .
الاكثر من ذلك فان حصر سريان المراقبة بعد انتهاء المهام الوظيفية فقط وعدم تحريك المتابعة في إبانها ، يجعل مسألة الافلات من العقاب هي السائدة ، ويبتعد عن الحلقة الاساسية المتطلبة لاستكمال منظومة مكافحة الفساد المالي وتأمين عدم الافلات من العقاب ، اذ كان المفروض ان يكون آلية رقابة حقيقية على ممارسات المس بالمال العام مصدر الاثراء، يكمل دور المؤسسات القانونية المختصة في مجال مكافحة الفساد ، ويمكن من اكتشاف الجريمة في اية مرحلة قبلية او بعدية وحرمان ناهبي المال العام من الاستمتاع بمنتوج الجريمةوعائداتها ،وتمكين الدولة من استرجاع ما تمت مراكمته بصفة غير مشروعة ،
ولا يفوتني ان اشير وقد كنت عضوة في لجنة العدل والتشريع ان السيد الوزير اثناء تقديم مؤيدات تجريم فعل الاثراء غير المشروع خلال الولاية السابقة سنة 2016 في اشارة الى عدم اقتصاره على فئة دون اخرى اشار الى ما يلي : ” يصبح التجريم ضرورة في حق كل سلوك يحدث اضطرابا في المجتمع من خلال المس بضوابطه وقيمه وهو ما تحقق في فعل الاثراء غير المشروع الذي مس بالمال العام وخلق تفاوتا طبقيا بدون وجه مشروع مما كان معه لزاما ان يتدخل القانون الجنائي كردة فعل شرعية ضد الجريمة “
لذلك فان اقتصار النص على الملزمين بالتصريح بالممتلكات سيجعل شرائح من الموظفين والمسؤولين غير معنيين بالملاحقة ، على اعتبار ان هذا التصريح لا يفي بالغرض وهناك اليات رقابة ومؤسسات من شأنها الكشف عن زيادة الثروة بدون مبرر مشروع ، علما ان من سيصرح بممتلكاته سوف يتخذ الحيطة والحذر لعدم تجاوز ما صرح به من أموال وعائدات، لانه يعلم مسبقا ان التصريح وحده هو السند الوحيد الذي يستدعي التجريم في حالة تجاوز ما تم التصريح به من مصادر الدخل المشروع والعجز عن الادلاء بما يثبت المصدرالمشروع لتلك الزيادة.
كما ان اعتبار نهاية الوظيفة او المهام شرطا للمراقبة وارجاءهذه المراقبة الى ما بعد انتهاء المهام سيجعل المسؤولين المتورطين في مأمن من الملاحقة طيلة سنوات الوظيفة والمسؤولية والتي قد تستمر طيلة عقود واحيانا مدى الحياة ،
والسؤال المطروح هل سيعتبر القانون الجنائي ردة فعل شرعية لمواجهة استشراء الفساد المالي ؟
علما ان ما قد يثار بخصوص قرينة البراءة من خلال قلب عبء الاثبات الذي يقع على عاتق الادعاء فإن ا الزيادة الفاحشة والطارئة في الثروة وعدم ملاءمتها وتناسبها مع الدخل الشهري بناء على معطيات تتوفر عليها سلطة الادعاء، بامكان المتهم ان يثبت مشروعية مصدر امواله المتأتية من الارث او الزواج بميسور او اي مصدر اخر يشرعن هذه الزيادة الطارئة،
وفي هذا الصدد، فقد عللت المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان ما ذهبت اليه من كون القرائن الموجودة في القوانين الزجرية لا تتعارض مع قرينة البراءة ما دامت في حدود معقولة وتتناسب مع خطورة الفعل مع ضمان حقوق الدفاع ، لذلك وما دام الفوران الشعبي ينحو منحى عدم الافلات من العقاب ومحاربة التفاوت الطبقي المبني على نهب المال العام والاغتناء الفاحش دون مبرر مشروع مع استشراء حالات ملموسة للإثراء غير المشروع واستفحالها، وان تجريم هذه الافعال يجد سنده في ملاءمة المغرب لقوانينه مع المواثيق الدولية خاصة الاتفاقية الأممية لمحاربة الفساد وكذا مطابقتها لدستور 2011في ، فلماذا لا يكون هذا المقتضى وسيلة للردع والوقاية ويتسلح المشرع بارادة وعزم لإخراج النص من مفهوم التأثيث وتنميق الترسانة التشريعية الى آلية فعالة تواكب توجهات التشريعات المقارنة وتنفذ مضامين استراتيجية مكافحة الفساد بصفة فعلية وفعالة .
واذا مرت ستون سنة على صدور القانون الجنائي الصادر سنة 1962 نتمنى ان يكون رقم الستين بادرة خير وتكون سنة 2022 هي سنة الافراج عن المشروع المتعثر المسحوب !