صيف بوتين الساخن (1)
بقلم/ سماهر عبدو الخطيب**
بدا واضحاً أن العملية العسكرية الروسية الخاصة في إقليم دونباس لن تنتهي مع تاريخ التوقيع على إنضمام دونيتسك ولوغانسيك وخيرسون وزاباروجيه إلى الإتحاد الروسي في 30 أيلول 2022 وفق إستفتاء شعبي في تلك المناطق وسبق الإنضمام إعلان التعبئة الجزئية للجيش الروسي في 21 أيلول 2022 ما يعني الإنتقال من مرحلة العملية الخاصة إلى مرحلة الحرب استعداداً للحرب الشاملة.
كما بدا واضحاً أنه ومع بدء الصيف بارتفاع درجات حرارته ارتفعت معه معدلات الحرارة في التحركات السياسية الغربية والشرقية بدءاً من لقاء الرئيس الصيني تشي جينغ بينغ مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين والإعلان عن تعميق الشراكة الاستراتيجية لدخول حقبة جديدة. والمصالحة السعودية الإيرانية والعودة العربية إلى سورية وحضور سورية في قمة جدة وصولاً إلى تكثيف الدعم الغربي لأوكرانيا وفتح الدول الغربية مخازنها لتزويد الأوكرانيين بما يحتاجونه عسكرياً، وأثمرت فتح مخازن دبّابات “ليوبارد 2” الألمانية، بعدما كانت واشنطن قد كسرت المحظور في صيف العام الماضي، بإرسال منظومات صواريخ “هيمارس” إلى كييف، وصولاً إلى لى تدريب طياري أوكرانيا على “أف 16″، طائرات وإعلان الهجوم الأوكراني المضاد.. وفيما كان الغرب منشغلا في تحليل أبعاد تمرد فاغنر كان قائدها حاضراً في القمة الروسية الأفريقية.. وتزامن انعقاد المنتديات والمؤتمرات الغربية مع الشرقية ولو أنه ربما محض الصدفة لكنه يظهر في تموضع واضح المعالم لمحورين أساسيين تمرد أحدهما على مدارس الجيوبولتيك الغربية مدوناً مدرسة جديدة أعمدتها وقوامها شرقي أوراسي ..
وبعد عقود مضت على استغلال الولايات المتحدة الأميركية لتعطش الدول التي كانت تدور في الفلك السوفياتي إلى النهوض باقتصادها قدمت لها الدعم الاقتصادي والعسكري لتتهاوى كأحجار الدومينو الواحدة تلو الأخرى في الركب الأميركي هاهي اليوم تذوق السم الذي طبخته أمام تعطش الدول التي تدور في الفلك الأميركي إلى التنمية والنهوض باقتصادها فتجد أنها كانت مخدوعه بذاك الفلك الذي ظنته نجماً لامعاً ليبدو أنه ثقباً أسوداً في فضاء يحوي الكثير من المجرات فعادت تبحث عن سبيل يروي عطشها للتنمية فوجدت في الصين وروسيا ضالتها وباتت “الدومينو معكوسة” كما ستكون القطبية الأحادية معكوسة من الغرب باتجاه الشرق..
والمثل يقول: “من يحفر حفرة يقع فيها” وما يقوم به بوتين على أنه تحركات ماهرة وانتهازية هو تحويل الأفخاخ الغربية إلى مزايا جيوسياسية روسية وما أعلنته “كونديلزا رايس” من فوضى خلاقة باتت استراتيجية تكتيكية وعلامة تجارية فتحت الباب على مصرعيه أمام الرئيس الروسي للدخول إلى الشرق الأوسط ومعاقبة “الغرب” على تجاهلهم وازدرائهم لروسيا كما عاقب أوكرانيا بداية في “القرم” وهو الآن مستمر في أوكرانيا كلها التي لم تأخذ ذاك العقاب على محمل الجد وربما نجد “ميونخ 1938” جديدة في أوكرانيا ولكن لن تكون حكماً بإرادة غربية بل بإرادة روسية التي لن تقبل بأن تُلدغ من الغرب “مرتين” ففي ميونخ 1938 تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا بين الألمان وداعميهم آنذاك وهذه المرة ستفرض روسيا شروطها وفق نظريتها الجيوبولتيكية بعيداً عن ترسانة المدارس الغربية التي تضمنت أحدث النظريات الأنيقة والمفاهيم العظيمة للماضي، مثل المخططات البارعة للعلاقة بين طول حدود الدولة وقيمتها السياسية من قبل فريدريك راتزيل، “أبو الجغرافيا السياسية”؛ وما يسمى “المحور الجغرافي للتاريخ” من قبل ماكندر مع “قلبها” في شكل روسيا، ومفهوم الدولة ككائن عقلاني بواسطة يوهان رودولف، وعقيدة “المواجهة القارية والمحيطية” لـ كارل هاوسهوفر.
ويمكن للمهتم بعلم الجيوبولتيك أن يرى بأن كل نظرية من تلك النظريات كانت تعتمد بشكل أساسي على الجوانب الإقليمية والبحرية كحجج للهيمنة، بينما لا تظهر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في تحليلاتهم لعناصر القوة.
كما يتم اختزال كل النظريات تقريباً في “وحدة الإنسان كمجموعة محدودة من عوامل الاختلاف والتوافق في أصل واحد”. فغالباً ما جمع المنظرون بين “اعتماد الإنسان على الطبيعة وسلطة مناطق معينة على المشهد المحلي” وهذا ما جعل الدول أو الإمبراطوريات لا تقهر. لا شك أنّ جميع هؤلاء المنظرون قدموا مساهمات مهمة في الجغرافيا السياسية والجيوبويتية لكنّ افتراضاتهم عفا عليها الزمن على الأقل الآن، حيث زودت هذه الأعمال الجيوسياسية بإطار من المشاكل الأساسية ولّد الكثير من الصراعات التي وصلت إلى أوجها اليوم.. وربما سيبدأ الاستراتيجيون الغربيون الآن في فهم هذه الحقيقة..
وفي العودة إلى “الهجوم الأوكراني المضاد “، الذي أكد فشله الرئيس الروسي ولم ينفيه لأن الجيش الروسي أعدّ عدّته، وأخذ في الاعتبار الأخطاء السابقة، واضعاً تهديدات العدو على محمل الجد، فخلق نظام دفاعي قوي لصد هجوم العدو، بالتالي لا يوجد هجوم أوكراني مضاد بل هناك محارب روسي منح القادة الغربيين في كييف الشعور بخيبة أمل من نتائج ما دعموه وتهيؤا له وسموه هجوماً مضاداً. وباتوا اليوم يدرسون النتائج والعواقب وسيفقد الأوروبيون الاهتمام بهذا الدعم وبدا واضحاً من تصريحات قادتهم ومظاهرات شعوبهم..
كما أنّ الخطوط الحمراء التي أكد عليها بوتين مراراً قد تجاوزها الغرب في جزيرة القرم وهو اليوم يؤكد أنّ إطلاق العنان للعدوان على روسيا البيضاء يعني شن العدوان على روسيا وبهذا التأكيد خط أحمر جديد لكنه قد يكون تحول في العملية الخاصة.
أما بولندا التي طافت مؤخراً تحذيرات من استعدادها لخوض حرب على روسيا ولا نستبعد ذلك لأن “أمركة” السياسة الخارجية لوارسو ستُعجل حكماً من نشوب حرب بين روسيا وبولندا وإن حدثت لربما “تجمّد” بولندا عضويتها في الناتو إذا ما تعرضت لضغوط من الحلف لعدم إرادته تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف والدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا وهذا سيدفع الروس لصياغة سياسة تجاه بولندا منفصلة عن الناتو. لكن البولنديين أنفسهم ربما تناسوا بأنّ “المناطق الغربية من بولندا الحالية هي هدية من ستالين إلى البولنديين”، ولا شك بأنّ الإرادة الروسية في استعادة أمجادها سوف تذكرهم ولهم في القرم عبرة تمتد لتشمل كل أوكرانيا.
كما أنّ التهديدات ضد بولندا ليست مجرد أقوال فقد تعلمت روسيا كيف تقاتل في غضون عام ونصف وبدأت تكتسب الزخم الذي يجعلها قادرة على ترجمة الأقوال لأفعال خاصة وأنّ هناك قناعة لدى البعض بأنّ “بولندا يمكنها أن تصبح شريك روسيا السلافي في إعادة تنظيم أوروبا الشرقية وحصن منيع للقيم التقليدية”.. ولكن يجب تفكيك النخبة العالمية الحاكمة الحالية بمعنى حدوث حرب عالمية ثالثة تفرض مبادئ دولية جديدة تتمسك بالقيم التقليدية التي تسعى الليبرالية الحديثة إلى إلغائها..
ويبدو أن الجنون الغربي اليوم المتمثل باستخدام شتى الوسائل لاستنزاف وهزيمة روسيا قد بلغ ذروته لذا فهم يخططون لاستخدام البولنديين والليتوانيين واللاتافيين والأستوانيين وربما أي خيار آخر يمكنهم توفيره وربما تكون الحجة بتصريحات بولندية تقول بـ”اقتراب قوات فاغنر من الحدود البولندية” وبالتالي لابد من الدفاع عن أمنها القومي!
يبدو واضحاً بأنّ هذا الصيف هو صيف بوتين الساخن وفق كل الأحكام التي أعلنها سواءً في الداخل الروسي أو خلال الحراك الدبلوماسي عبر القمم والمؤتمرات المتتالية والتي تشير بشكل لا لبس فيه إلى أنّ روسيا اليوم (وهو دلالة إلى إعلامها منذ نشأة محطاتها تحت هذا الاسم وفرض وجودها اليوم كـ نَد للولايات المتحدة) تحدد شروط الحرب، وانتقلت من الاستراتيجية الدفاعية (دفاع عن أمنها القومي) إلى الردع الاستراتيجي والمبادرة في رسم سيناريوات الحرب والسلم وليست مجرد طرف قائم على رد الفعل فالفعل بحد عينه بات فعلها..
ويمكننا متابعة جدية الهجوم على خاركيف وأوديسا، والذي كان قبل بضعة أشهر أي عشية الهجوم المضاد، لا يمكن تصوره بهذا الزخم وهذه الإرادة على النصر وما سبقه أيضاً من تفجير نورد ستريم، وخط أنابيب الأمونيا، والهجمات على جسر القرم ومحاولة استهداف الكرملين بالطائرات المسيرة وتخريب صفقة الحبوب كل ذلك وضع موسكو في “الزاوية”، دون ترك أي فرصة لها للعودة إلى “عملية التفاوض”، ليبدأ الكرملين في التصرف بشكل مناسب، وإذا أردت السلم فاستعد للحرب واسمح لها بالدخول لتنتصر.
**كاتبة صحافية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية