إضاءة وإحاطة.. وصايا لا تلزم احدا
قيل قديما: ( أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه)، وهذا الحكم ليس اعتباطيا أو انطباعيا البتة، بل يُبنى على جملة أمور متضافرة، تجعل النص يمارس سطوته الجمالية على المتلقي، فيعزله لحظيا عن الزمان والمكان، ويملك عليه نفسه وحواسه، ويجعله في حالة خدر جمالي.
وأنت تقرأ شعر الشاعر ” مصطفى الشليح” منتقلا من قصيدة إلى قصيدة ، ومن ديوان إلى ديوان، تحس ما له من القدرة على الإدهاش والسيطرة والإمتاع، إذ يسافر بالقارئ في دروب المعاني الملتوية المدهشة، ويبهره بالإشارات الجمالية الفاتنة، ويتحفه بالصيود البيانية المشعة، ويخلق لدى المتلقي تحديا جماليا يحرّضه على مناوشته، ومحاولة تفسيره وتذوقه وتفكيكه وكشفه.
يُسلك شعر “مصطفى الشليح” ضمن ما سماه الجرجاني بالنمط العالي والشعر الشاعر، وهما حكمان يصبّان في وصف جودة الشعر وتأثيره الجمالي، ويرتبطان بعوامل نصية تمتُّ بصلة إلى المعنى والإيقاع والصورة واللغة والتماسك والنظم، ويسهم كل هذا وغيره من آليات الجودة في تحقّق بلاغتي الامتداد والإمتاع.
إنّ القصيدة عند “مصطفى الشليح” درب ملتو يفضي إلى متاهة جمالية وارفة، لا تسلم القارئ قيادها إلا بقدر إيمانه بجدوى الشعر، وبقدر زاده المعرفي وقدرته على التأويل وفكّ الرموز.
وللشاعر تصوره الخاص لمفهوم الشعر ووظيفته؛ وتسعف نظرات في أشعاره على امتداد دواوين مختلفة ومتباعدة في استنتاج مفاده أن مفهوم الشعر عنده يختلط فيه الوجداني الغنائي الذي يعبر عن تجارب شخصية أو نظرات في الواقع والحياة، بما هو صوفي رؤيوي يكشف عن النظرة الوجودية للأشياء والكون والوجود، لذلك يصعب تصنيف الشاعر ضمن مدرسة أو تيار أو اتجاه أو حزب شعري، وينبني على ما سبق أنه يبتعد عن استنساخ التجارب الجمالية، ولا يتكئ على أبوة هادية، لذلك فشعره متفرد على مستوى الحمولة المضمونية والتشكيل الفني.
إن ما يلفت الانتباه في تجربة “مصطفى الشليح” طبيعة اللغة الخاصة معجما وتركيبا، فهي خليط من إبداع وتراث وصوفية ورؤيا، تنبع من عبقرية شعرية تخلق عوالم سيماها الإدهاش وخرق المألوف، وينبني على ذلك أنّ الاستنجاد بالأدوات النقدية والبلاغية الجاهزة قد لا يفيد في النفاد إلى الكون الشعري للشاعر، فما بالك بتذوقه وكشف جمالياته وأبعاده.
إنّ قصائد الشاعر لوحات موشاة لغة، وصورة، وإيقاعا، وهي أقرب في انهمارها المعنوي والإيقاعي إلى سيل لجي متدفق يخرج من مشكاة التصوف والتشوف، يشع بنوره من كوة الكشف والرؤيا.
يملك الشاعر قدرة بليغة على تطويع اللغة تركيبا وإيقاعا لتعبر عن المعنى في يسر وسلاسة، وتكاد سمة كسر أفق الانتظار تلتصق بشعره من خلال زئبقية المعاني والصور التي يضمخها بماء الرؤيا والتغريب.
والحق أننا أمام شاعرية لا ينضب معينها الرقراق، حتى إن المتلقي ليظن أن خلف الرجل من يمده بالقول من وراء حجاب أو إنه يستمد كلامه من سبعة أبحر، ولا أدلّ على ذلك من النفَس الشعري الممتد في كل قصيدة ، والانتظام على القول والنشر، على أنّ الكثرة هنا ترتبط بالجودة والنوعية، وقديما عُدّ شرط الإكثار معيارا للفحولة.
إذ استعرنا مقولة “بوفون” الشهيرة، أمكننا القول أنّ الأسلوب هو الشاعر، وأيما قائل لا يستطيع أن يصنع شخصية شعرية تميزه عن غيره هو أبعد عن وصف الشاعر، فمن لا أسلوب له لا شعر له، و”مصطفى الشليح” صاحب أسلوب وصاحب شخصية شعرية لا تقلد نمطا ولا تسير على نهج أبوة شعرية مباشرة أو غير مباشرة، والقارئ لشعره يدرك تميزه الأسلوبي في المعاني المخترعة، والمعجم المنزاح عن الألفة، والتراكيب الخاصة، والصور المدهشة، والإيقاع المائي، كل هذا يقوم على موهبة واضحة يقويها بثقافة متجددة، وحاصل ما سبق أنّ قصائده تدل عليه حتى وإن خلت من اسمه.