الظرف البريدي و فرحة المولود الجديد
كان شابا كثوما ، تربطه بقريته ومدشره علاقة حميمية ، بدت عليه علامات النضج منذ نعومة اظافره ، التحق بكتاب المسجد و لم يتجاوز سنه الأربع ، يعشق ترتيب اثاث البيت و اصلاح كل الاعطاب كعشقه للعمل بالفلاحة و القراءة و البحث عن اجوبة كل الاسئلة العالقة بذهنه ، شغوف لا فضولي ، مهتم لا اعتباطي ، محب لنفسه لا اناني يبدو سهل في علاقاته لكنه ممتنع ….كانت هذه هي المعلومات الاولية عن ” عباس ” التي كونتها عن شخصيته من خلال الحديث مع والده الذي جاء لاستخراج بعض الوثائق الادارية تهم ” عباس ” الذي سينتقل الى مدينة فاس لاتمام دراسته الجامعية بعد تفوقه بثانوية مركز القرية وحصوله على شهادة البكالوريا بامتياز .
تسلم والد عباس الوثائق و بنخوة الانتصار و تحقيق الشعور الزائد بالذات كأنه هو من سيلتحق بالجامعة وتلبية رغبة ازلية كامنة في دواخله وغادر المكتب وشيء عالق بذهنه لم يسعفه المكان لكشفه….
رحل الولد “عباس” للدراسة بفاس ، خيم سكون غريب على بيت الاسرة ، عادت الاشياء و الامكنة الى فوضويتها وقلت الحيوية و التجديد و لم تجد الكثير من الاحداث و المشاكل طريقها للحل ، خيمت اجواء الرتابة على ساكنة البيت وامتدت الى الفضاءات الخارجية و الحقل ، حتى القطط و الكلاب دخلت في حداد .
كانت كل الاشياء والمعنويات و الاجواء تعود مؤقتا لوضعها الطبيعي العادي كلما زار “عباس ” القرية خلال عطل الدراسة ولو ان اهتمامه قل وحبه تملكته دراسته الجامعية و كتبها المتعددة الاحجام ، والغيرة تاكل اشياء و حيوانات العشق الماضي نتيجة عدم اهتمام ” عباس” .
توالت الايام ، جاء ” عباس” لإعداد بعد الوثائق لاجتياز مباراة سلك القضاء ، تذكرت حديث والده و كانها جلسة للتحقق من صدق كلام الأب ” الحاج محمد ” بتركيز قليل و اطلاق العنان لحديث “عباس” تيقنت ان فراسة الاب في ابنه لا تخطىء …
ناولته المطلوب من الوثائق ، غادر المكان و في نفسه شيء من حتى ….
كان حرصي على الامور فيه نوع من التدقيق حفاظا على مصالح المرتفقين ، ليس تقليلا من كفاءة مرؤوسي ولكن من باب ليطمئن قلبي ..
احدى ايام الجمعة بعد العصر وانا اتصفح واردات الادارة وقع نظري على ظرف مختوم بطابع مؤسسة تابعة لوزارة العدل ، امعنت النظر للمرسل اليه “عباس بلقاضي”، أوقفت البحث هنيهة وحلق بي تفكيري بعيدا ابحث عن شيء لم ادركه او اتدكره بعد …..
خلال الثلاثة اشهر الماضية اتصل بي صديق لي بالمنطقة المجاورة و طلب مني بعض المراجع القانونية لكون احد اخوته المقيم بالرباط يرغب في اجتياز مباراة القضاء ، ربطت الاحداث بسرعة الضوء ، ناديت على موظف المداومة وطلبت منه الاتصال فورا بمقدم الدوار للالتحاق بالادارة ….
هاتفت صديقي المسؤول بالمنطقة المجاورة ، رن هاتفه دون رد ، عاودت الاتصال مرة اخرى ، جاء الرد وبعد التحية ، سالته عن اخيه هل توصل بالمراجع و هل افادته ، فاشفى غليلي جوابه المقتضب ، موعد المباراة يوم الاثنين القادم بالمدرسة الوطنية للادارة العمومية بشارع النصر بالرباط والحضور ابتداء من الساعة السابعة والنصف صباحا ، دون اضافة اجبته الله الموفق وقطعت المكالمة .
وصل مقدم الدوار المتقدم في السن منهكا للمكتب بعد صلاة العشاء ، امهلته قليلا لاسترجاع الانفاس ، ناولته الظرف و طلبت منه ان يسلمه على وجه السرعة للمسمى ” عباس بلقاضي ” او لوالده الحاج محمد واكدت عليه ، واخبرني انه يقيم بجواره ، طلبت من سائقي ان ينقل المقدم ” مولاي احمد ” على متن سيارة المصلحة للدوار .
يوم الاثنين ونظرا لملحاحيتي في تتبع الامور ومن باب ليطمئن قلبي ، سالت عن المقدم ” مولاي احمد ” فاخبروني انه انتقل رفقة زوجته الثانية التي فاجئها المخاض على متن سيارة الاسعاف الى مستشفى الغساني بفاس .
بعد الوضع لمولود ذكر رجع المقدم للدوار لأخد بعض الأغراض لزوجته و اصطحاب والدتها لرعايتها فترة اقامتها بالمشفى .
عم ” مولاي احمد ” فرح انساه مسؤولياته وصل لحد نشوة المخمور لكون زوجته انجبت له ولدا ذكرا يحمل اسمه ضمن بناته الثلاث من زوجته الأولى.
حل ” مولاي احمد ” و حماته بالمركز للتنقل لفاس و جاء للمكتب لطلب رخصة عطلة الولادة ، فاخبروه اني سالت عنه بإلحاح .
دخل المكتب و بعد التهنئة بالمولود الجديد وسلامة الزوجة ، سالته عن مآل الظرف و هل توصل به ” عباس بلقاضي ” و بسذاجة فطرية أجاب ويده تتحسس محفظته التي لا تفارقه الا في غرفة نومه قائلا ” سيدي كن مطمئنا الرسالة احتفظ بها ولن اسلمها الا لعباس شخصيا “، فهو لا يحب ان تسلم اغراضه لأحد غيره حتى ولو كان ابوه .
جن جنوني ونهضت من الكرسي ، اصبت بدوران وغثيان افقدني قواي و استلقيت على الكرسي ويداي توكزان راسي دون ان افوه ببنت كلمة …
ناولني الظرف و طلبت منه الانسحاب دون اضافات ، طلبت من عون المكتب كاس ماء و اشرت له ان يطلب من الموظف ” سي علي ” انجاز برقية الترخيص للمقدم ” مولاي احمد ” …..
انتابني شعور غريب ….احساس بالمسؤولية ….كرهت نفسي و المواقع و الامكنة ….غادت المكتب الى ربوة مطلة على الوادي لاسترجاع الانفاس و تخفيف تأنيب الذات .
في اليوم الموالي عقدت اجتماعا مطولا مع الاعوان و الموظفين ووضعت نظاما جديدا و سجلات و قانونا داخليا لتحديد المسؤوليات و ترتيب آثار على التهاون والامبالاة وكاني اجلد نفسي جلدا لم تسنه قوانين ولا دوريات من قبل .
ظل الحادث عالقا بذهني كلما دخل عندي المقدم او الحاج محمد او الطالب عباس . حاولت رواية الحدث للمعني بالامر ، حيث انه كلما زار المكتب لقضاء بعض الأغراض الادارية يتكلم معي بلغة ” القضاء و القدر ” و ” الحظ ” و ” المكاتيب” كاني به على علم بالواقعة .
في بداية السنة الموالية ، ومع زيادة حرصي و التدقيق في الاشياء نقطة نقطة و فاصلة بعد اخرى ، توصلت بمظروف مماثل باسم ” عباس بلقاضي ” و بنفس المواصفات كأن التاريخ و الأحداث تعيد نفسها رأفة بي لرد الاعتبار للذات و طمس آثار جرح نفسي غائر في ضمير متقد …
حملت الظرف كأني احمل نتيجة نجاحي بالشهادة الابتدائية في زمن المدرسة المغربية الشامخة ، طلبت السائق و السيارة في اتجاه دوار المقدم “مولاي احمد ” ، قاصدا منزل الحاج محمد ، وجدت ” عباس بلقاضي ” تحت ظل شجرة الكالبتوس المجاورة لفضاء بيته و الكتب متناثرة والاوراق مترامية يستعد لاجتياز مباراة القضاء التي لم يتوصل بها السنة الماضية حسب قوله وقطط و و كلاب المنزل تحيط به كانها تريد ان تشاركه عشقه الجديد الكراسات والكتب ، بعد الترحاب بقدومي ، قدمت له الظرف الذي طلبت منه ان يفتحه للتأكد من محتوياته . المباراة بداية الأسبوع المقبل. تناولت معه كاس شاي و دعوت له بالتوفيق وغادرت المكان بعد ان سالت عن الحاج محمد الذي أخبروني انه يوجد في زيارة لابنته المتزوجة بطنجة .
بعد مغادرتي للمكان انطفئت نار كانت مشتعلة في جزء مني لا اعلم مكانه ….احساس بتأنيب الضمير …اذ داك احسست بلوعة ومسؤولية ووقع خطأ لم ارتكبه …
نجح ” عباس ” قضى فترة التدريب ، تخرج وتم تعيينه بالمحكمة المختصة ترابيا بمكان عملي ، التقينا مرارا . على هامش حفل اقيم لتعيين مسؤول ترابي جديد أخبرته بالواقعة التي استقبل فحواها ببرودة دم وازحت ما بقي من اللوم عن نفسي …
توالت السنين والتقينا من جديد ” الاستاذ عباس” مستشارا بمحكمة الاستيناف كلامه عن ” القضاء والقدر ” و ” الحظ ” و ” المكاتيب” لم تغيره بدلة المهنة ولا هيبتها ، ” عباس ” الذي احببت فيه كل القضاة النزهاء بمحاكم مملكتنا الشريفة رغم مبدأ فصل السلط ….
الصويرة 2022/09/19