ولو بحفنة طحين بكل القلب..مغاربة يتضامنون مع ضحايا زلزال الحوز
بقلم/ عبدالعزيز أكرام**
رجل في الستينيّات يمتطي درّاجته الهوائيّة القديمة ويضع أمامه نصف كيس طحين. يتقدّم الرجل البسيط الحال في اتجاه تجمّع لمواطنين في شارع إحدى المدن المغربية حيث يأتون بما استطاعوا لمساعدة ضحايا زلزال الحوز، وبعد أن يمدّ أحد الشباب المتطوعين بالكيس يمضي لحال سبيله.
اقتسم الرجل مع الضحايا بعضاً من قوت أهله، لعلّه ينفع أسرة تنتظر المساعدة في أعالي الجبال. منظر الرجل أثار مشاعر الدهشة والتقدير لدى كثيرين في وسائل التواصل الاجتماعي علقوا على هذا الكرم الحاتميّ لمغربي اقتسم قوت يومه مع إخوانه. هذا المشهد ليس منعزلاً إذ هبّ آلاف المغاربة، لمدّ يد العون لمن هم في حاجة إليه، ليظهروا تضامناً أدهش بقيّة العالم. رصيف22 التقى البعض ممّن يشاركون في هذه الحملات في أحياء شعبية وأخرى للطبقات الغنية في أحياء العاصمة الرباط وجارتها سلا.
شمالاً أم جنوباً… بوصلة الحبّ تقود إلى الحوز
بدأت تفاصيل الحكاية عندما اهتزت الأرض تحت أرجل المغاربة مساء الجمعة 9 أيلول/سبتمبر، ليتضح أنه زلزال مدمّر بلغت قوته 7 درجات على سلم ريختر، وحددت بؤرته في جماعة إغيل بإقليم الحوز، وفقا للمركز الوطني للجيوفيزياء.
أزيد من 2900 قتيل وآلاف الجرحى على الأقل، كانوا من ضحايا هذا الزلزال، في انتظار انتشال الجثث جميعها والوصول إلى الدواوير (القرى) المعزولة، نظراً لصعوبة ووعورة تضاريس المنطقة. ومنذ الساعات الأولى التي أعقبت هذه المأساة، تجند المغاربة، أفراداً وجمعيات مدنية، لتوفير المساعدات الغذائية والخيام، وكل ما يسهم في حصر الضرر وإغاثة المنكوبين.
حملات هنا وهناك، ودعوات للتبرع على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي لم تهدأ منذ اليوم الأول للفاجعة. مغاربة من مختلف المدن وباختلاف أعمارهم أطلقوا حملات لجمع المواد الغذائية والأغطية والملابس والخيام وكل ما يمكنه أن يعيد الحياة لأناس لم يعودوا يملكون شيئاً، يلتحفون الأرض ويفترشون السماء، و تنقلوا في سياراتهم الخاصة، وفي قوافل لإنقاذ الضحايا.
كن قمرا وامنح الضوء لغيرك
أمام المعلمة التاريخية باب المريسة بمدينة سلا، عشرات من الشباب نظموا حملة لجمع تبرعات المواطنين لفائدة ضحايا الزلزال. تمكنوا من جمع بعض الأغطية والأفرشة وما جادت به أيدي المواطنين، من ساكني الحي أو المارة. مياه معدنية وكميات من زيت المائدة إضافة إلى أكياس من الدقيق والشكر والشاي ومواد أخرى تهم الحياة اليومية. بين الفينة والأخرى يتوافد مواطنون على مكان التجميع. التقينا هنالك بمليكة وفاطمة، والصدفة أنهما تنحدران معاً من المناطق التي مسّتها الفاجعة.
هل منازلنا آمنة في الزلازل أم لا؟… يجيب المختصون
كجميع المغاربة لبّينا نداء الوطن والواجب وساهمنا بما نقدر عليه، ولا زلنا نعيش تحت هول الصدمة
في حديثها إلى رصيف22، تقول مليكة وهي ربة بيت “نحن اليوم أمام كارثة إنسانية، فالآلاف باتوا اليوم بدون منازل ولا معيل. ولا زلنا نتابع على التلفزيون تطورات الحادث، ويؤسفنا صراحة ما جرى، فنحن جميعاً مغاربة”، قبل أن تضيف: “كجميع المغاربة لبّينا نداء الوطن والواجب وساهمنا بما نقدر عليه، ولا زلنا نعيش تحت هول الصدمة”.
تكمل حديثها قائلة ” أتحدّر من منطقة مزوضة وزوجي من منطقة أداسيل بإقليم شيشاوة، وهاتان المنطقتان كلتاهما اليوم منكوبتان. السكان هناك عرف عنهم الجود والكرم والوقار لا غير. واليوم لا يحلو لنا الحديث ولا الطعام ولا أي مجمع، لأن المصاب جلل ولا طاقة لنا، ونتمنى أن تؤول الأمور إلى ما فيه خير”. أما فاطمة التي كانت تقف إلى جانبها والتي تتحدر من منطقة إيغرم بإقليم تارودانت، فاكتفت بالدعاء للمنكوبين وتقاسم الهمّ ذاته والألم نفسه مع مليكة.
استمر توافد المساعدات العينية على المكلفين بتجميعها. في هذا الصدد قال محمد الكاضي، أحد منظمي هذه الحملة في حديثه مع رصيف22 “بدأنا جمع هذه المساعدات منذ يوم الأحد الماضي، وسينطلق يوم الأربعاء إلى إقليم شيشاوة، وتحديداً إلى منطقة الزاوية النحلية، حيث قمنا بالتنسيق مع الساكنة هنالك. وهذه الحملة كغيرها من الحملات أتت في سياق ما تستوجبه الظرفية الذي تضررت فيها مناطق من جراء الفاجعة، فعلى الرغم من أننا هنا في مدينة سلا، إلّا أن قلوبنا مع المنكوبين”.
واصل الكاضي حديثه “لقد أيقظت هذه الكارثة قيم التضامن المتجذرة أساساً في مجتمعنا، فقد تمكننا من جمع ما تيسّر من المؤونة والأفرشة، ونتمنى أن تساعدنا السلطات المحلية هنالك لأجل مرونة أكبر في التوزيع، ونحن نريد أن نصل إلى المنكوبين مباشرة حتى نعرف إجماليّ متطلباتهم حتى نعود مرة أخرى إلى تلك المنطقة”.
لقد أيقظت هذه الكارثة قيم التضامن المتجذرة أساساً في مجتمعنا، فقد تمكننا من جمع ما تيسّر ونتمنى أن تساعدنا السلطات المحلية
أما عبد المجيد العلمي الإدريسي العضو الآخر في الفريق الجمعوي المكلّف بالحملة فيقول لرصيف22 “جميع ما توصلنا به من مساعدات بمختلف أصنافها سنتوجه به يوم الأربعاء إلى المنطقة التي حددناها سالفاً، حيث نسّقنا مع مسؤول التوصيل الذي سينقلنا رفقة المساعدات”.
يسترسل عبد المجيد متحدثا عن طبيعة ما تم التوصل به “توصلنا بمساعدات مختلفة، من أغطية ومواد غذائية وأفرشة وسوائل؛ من زيوت ومياه معدنية. كل ساهم بما توفر لديه، والكل مشكور على جهده”.
دينامية مجتمعية بروح نقابية
تركنا التجمع في باب المريسة في مدينة سلا، وعبرنا نهر “أبي رقراق” في اتجاه مدينة الرباط، وتحديداً حي اللّيمون. هنالك وفي المقر المركزي لإحدى المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، خُصصت قاعة كبرى لجمع ما يمكن من المؤونة وما يمكن أن يساهم في تخفيف الضرر بالمناطق المنكوبة. توافد عدد من المواطنين والمناضلين على القاعة، كل يحمل على أكتافه ما يريد المساهمة به في هذه الأزمة.
وقف رصيف22 على سير العملية حيث اصطفت مجموعة من السيارات أمام المقر وعلى متنها مساعدات باختلاف نوعيتها وكمياتها، وهي نتاج لمساهمات تجار المدينة ومناضلي النقابة ذاتها. زيت مائدة ومياه معدنية وأفرشة وبسكويت وحليب معقم، إلى جانب عصائر ومعلبات سردين، كان ذلك ما تم ترتيبه ضمن القاعة الكبرى.
يوسف ماكوري، ناشط نقابي، قال في حديثه إلى رصيف22 “إننا اليوم أمام لحظة وطنية جامعة تستوجب علينا الوقوف وقفة رجل واحد لتجاوزها بما تحمله من ألم وآمال. ولقد فتحنا مقرات نقابتنا بمدن مختلفة لاستقبال المساعدات من المناضلين والمتعاطفين، وسنقوم بعد تجميعها بنقلها مباشرة إلى إقليم تارودانت الذي سنستهدفه بالدفعة الأولى”.
وأضاف ماكوري أن “هذا المستوى من التضامن الذي أبان عنه المغاربة في هذا الظرف يُشعر بالفخر، لا سيما أن الكل ساهم، حتى الأشد فقراً منهم، وهذه صراحة هبّة شعبية حقيقية”، موضحاً “إلى جانب الزلزال، عانى مواطنو الأقاليم المعنية بهذه الفاجعة من الفقر والعوز والسياسات التنموية، ومن غياب العدالة المجالية كذلك”.
هذا المستوى من التضامن الذي أبان عنه المغاربة في هذا الظرف يُشعر بالفخر، لا سيما أن الكل ساهم، حتى الأشد فقراً منهم
وخلص الفاعل النقابي إلى أن المطلوب الآن هو “إنقاذ هؤلاء الضحايا الذين لم يبق لهم شيء من ممتلكاتهم ومنازلهم، وريثما نخلص من هذه الأزمة، وجب أن تعمل الجهات المسؤولة على سنّ سياسات مجاليّة (مرتبطة بالجهات) عادلة تجاه هذه المناطق، عبر فك العزلة عنها وإيصال الأساسيات إليها، فمن غير المقبول أن تكون هنالك في هذا الوقت مناطق لا تتوفر على طرق معبّدة، وبالتالي وجب إنصاف هذه المجالات التي تشغل جغرافياً مساحة هامة من ترابنا الوطني”.
روح مجتمعية بطعم الأمل والألم
واصل رصيف22 زياراته الميدانية للحملات الشعبية التضامنية مع ضحايا “فاجعة الحوز”، لكن في نفس المدينة؛ العاصمة الرباط. توجهنا إلى حي الرياض، أحد أرقى أحياء المدينة، هناك حيث نظمت فعاليات جمعوية ومدنية حملة لجمع المؤونة والأغطية للأقاليم التي أتت عليها الكارثة بثقلها.
بين كل لحظة ولحظة تحل سيارات بالمكان، سيارات من النوع الفاخر والمحملة بالمزاد، من الدقيق والسكر والزيوت والتمور والألبسة. طاقم من الجمعية المنظمة جُنّد لفرز هذه التبرعات العينية، إلى جانب متطوعين آخرين حلوا بالمنطقة الموجودة بالطابق السفلي لإحدى البنايات السكنية.
أغلب المتطوعين هنا شباب، الابتسامة تعلو محيّاهم جميعاً، فالبلاد أمام تحدي إنقاذ المتبقين وجبر الضرر الذي لحق بهم بعد الدرجات السبع على سلم ريختر.
سلوى، نادية، عصام وآخرون، كلهم شباب كثفوا جهدهم في سبيل جمع التبرعات العينية وفرزها وتصنيفها ليسهل نقلها.
كإجراء ملحوظ، خصصت الأكياس البلاستيكية الزرقاء للملابس الرجالية، فيما خصصت الحمراء للملابس النسائية التي تم جمعها، أما ملابس الأطفال فوضعت في أكياس مميزة. ما يثير هنا أن الكل متحمس، الشباب الحاضر اصطف في طابور طويل يفصل بين الشاحنات والمخزن السفلي للعمارة الذي تخزن فيه المساعدات العينية قبل إعادة ترتيبها ونقلها.
استمر توافد المساعدات العينية طوال المساء وإلى غاية وقت متأخر، أعضاء الجمعية هنا مميّزون باللون الأصفر، فهم الواقفون على تسيير وتدبير مختلف العمليات. تم فرز المساعدات حسب صنفها وتم تجميعها في أكياس تحمل اسم الجمعية، في انتظار أن تصل المناطق المخصصة لأجلها، فيما بدا أن الشعور السائد هو شعور يمتزج ما بين ألم وأمل وكل الملامح تحكي الشعور ذاته: على الأرض ما يستحق الحياة.
أصداء التضامن تجاوزت حدود الوطن، حيث أطلق مغاربة العالم مبادرات جماعية للمساهمة إما عينيا أو ماديا، عن طريق إرسال الأفرشة والخيام والكراسي المتحركة ووضعها رهن إشارة المتضررين، أو من خلال تحويل المساهمات إلى الصندوق الخاص بتدبير الآثار عن الزلزال الذي عرفته المملكة المغربية، والذي أحدث من أجل تدبير واقع ما بعد “فاجعة الحوز”.
المصدر: **رصيف22