خريف حزين متثائب يترنح بين انتظار قاتل وآمال كاذبة
خريف حزين متثائب يترنح بين انتظار قاتل..وآمال كاذبة…واوراق صفراء تتقاذفها الأرصفة والشوارع الضيقة..تدفعها الرياح في جميع الاتجاهات…ضباب أبيض ناصع يتحدى الغمام الرمادي القاتم…يتجاوزه بسرعة راحلا نحو الشمال حيث المناطق الباردة،الرحلات المنظمة التي كانت تقوم بها الطيور المهاجرة من اللقالق والسنونو أجلت الى اجل غير مسمى…ربما لم تعد تفكر في الرحيل…مادام الحزن في الجنوب لايختلف عن توأمه في الشمال…
لم تعد الحياة كما كانت بالامس…لم يعد الحب يرقص على عتبات المنازل…وطقوس السطوح،وفي الدروب الضيقة،وقرب الأضرحة وبحوار المقابر،ومن شباك النوافذ والشرفات…
نظر حواليه،فلم ير غير وجوه الغربان واليوم…تنعق وتنعب وتنادي بالخراب،في ذلك الحي المليء بالمتناقضات ،فعلى امتداد العتبات تتمدد اجساد أدمية متهالكة،يعلوها التعب والشحوب،وفي عز الصخب،تنبعث اصوات مزعجة قاسية،فمن مكواة اللحام واشعتها الزرقاء ،الى قأقاة الدجاج ونقنقة الحجل،ونباح الكلاب ،ونهيق والحمير،واصوات لاعبي الورق،وهدير محركات السيارات والشاحنات ،وضجيج الدراجات النارية الثلاثية العجلات،وسط هذا الرعب،اختلط الحابل بالنابل،وتآكلت جنبات الطريق وحواشيها بسبب حساسية الغبار والتراب ودخان السجائر ،وعوادم السيارات…انتظر…وكاله انتظاره….غاب بوعزة وبقي مولاي…غابت مكناس وبقيت أسوار مولاي اسماعيل وقصبت شامخة…طمست بني ملال…وبقي قصر عين أسردون حيا يرزق…غابت وعود الصوفية وبقيت فراء الخرفان عارية جرداء …
لاشيء غير نهود جافة لم تعد قابلة للمص والعض والعصر….ماذا هناك..لاشيء غير انخفاض في الضغط بشكل مفتعل حتى تحرم الصبية من اقتناص لحظة عشق ساخنة ودافئة..عبث يطول بمساحات الحي والمدينة…حركات تحري مشبوهة قد لاتفيد في شيء…ولن تؤدي إلى نتيجة…ومهما بحثوا في رصيده البنكي فهو تحت عتبة الصفر…متبوعة بديون ثقيلة..تثقل كاهله…اما رصيده النضالي فلم يعد في أغلب الأحوال غير تحويل الاحتجاج إلى البحث عن اقرب حانة من اجل الغرق في غيبوبة قد تطول…او البحث عن فرج ثخين ،وانامل ناعمة كي تحك له الكنة في خلاء مشبع بالتبن…انه يحب فوضى الاشياء في الجسد..ولكن يكرهها في الأعمدة والاسوار والارصفة الإسمنتية…
غاب بودراع وبقيت الاطلال ترسم ندوبا على الفراغ والبباضات…ضع رجلك في دروبه…كل شيء مربع وقاس بسبب الهجرة الجماعية نحو اقواس النصر وبلدان الحياة واستعادة الروح…
نظر حواليها…تذكر الرفيقة التي هجرت الديار منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود…تذكر فتيحة ونعيمة وسعاد وحفيظة وحكيمة..تذكر ماجدة والسعديةة ولبنى…وعزيزة…ضاقت به الارض بما رحبت…وهو يرى نهر تم الربيع قد جفت مياهه والى الابد،تذكر الحنفيات الرقراقة،تذكر لحريكة والحميضة والعشلوش وقوق الذئب…وعرسه…تذكر قريد العش وزعيرطة…ومقهى الهاني،وحمدان السباح،ومرتق القصاع الخشبية ،ومرمم الطواحين والقلال والصحون الطينية،وقلوشات السمن. الله اليأس وطول الانتظار،وعبر الجدران غير المقبولة علقت في ثقوبها ريش الدجاج والديك الحبشي وزغب الحوش…
في عز الجوع قالت له:” أريد طاكوست” ولم تدرك أن العيون اكبر من طاكوست ولكورتاه…
اختلطت عليه الامور…لكنه كره هذا الحماس الزائد عن اللزوم،كره ذلك المتحذلق الكاذب الذي يأتي بعد نهاية الاشغال ليملأ بطنه باللحم والفواكه وبعدها ينصرف…لكنه يستغل كل فرصة لكي يحدث الاخرين عن الوطن والوطنية والمواطنة…
كره هذه الوجوه القردية التي تبتلع كل شيء دون ان تتوقف…
في عز يأسه…رأى الصدأ ينتشر في كل مكان،ويملأ كل الزوايا ويحتاج كل الكوات..
في الخريف الماكر…رفض ان ياكل صحن بركوكش …بعدا رحلت حجرة وبقيت لالة بنفس الجمال والحسن،والقد والاعتدال،كانها ماحبلت ولاولدت،ولا أرضعت وربت،كانت تنظر اليه بتلصص خفي من عينها،فكر في الزرزور الذي يوجد فوق السور،وعن العيون التي جلبت الهوى من شيشاوة …
الخريف المائل يرافقه جمود وجحود…بحث عن الدفء فلم يبق غير الصد والجفاء…جرب كل الحيل والخبرات ،ولكنه كان يشعر ان قدره هو ان يذهب للغابة ربما بحثا عن منطقة الامان…
اه لو كان يعرف اسمها الحقيقي واسم امها لعمل لها عقد محبة وتميمة حب…وطليم تهييج…مايزال يتذكر تلك العبارات المكتوبة في كتاب السحر الاحمر للطوخي الفلكي..الوحا….الوحا… العجل..العجل…الساعة…الساعة…
طال انتظاره …وهو يرى لايرى غير رجال تجاوزوا الستين…لم يملكون غير تلك النظرات الشزراء القاسية التي لن تؤثر لا في نملة او بعوضة…
العفريت الذي كان مولعا برواية اللي والكلاب..قال لي ضحكة هستيرية ممزوجة بالسخرية.:”انهن قد رحلن” قلت له: من رحل ؟
اجابني الجميلات ذوات المؤخرات السمينة.
أحبته: وماالغريب في رحيلهن..
قال لي: انهن في ضيافة برج خليفة…
امسك بالاوراق…كانت مادة لزجة قد علقت بها…نظر اليها نظرة ملتبسة وغامضة،فهمت قصده،وبعفوية وسذاجة قالت له:
-هاذشي لي عطا الله.
تغيرت ملامح وجهها وعلتها كآبة صماء،وعن تجربة مجرب قال لها متوسلا:
“إياك أن تبكي..فقد كرهت الباكيات”