لا يختلف اثنان اليوم بأن المشروع الإقليمي للنظام العسكرتاري الجزائري اتضحت معالمه أكثر وأصبح الجميع على يقين بأنه يرتكز في تحديد علاقته مع العالم على محدد واحد ومبدأ وحيد وهدف أوحد هو الاشتغال بشكل متواتر على تفكيك الدول الوطنية المستقلة والسعي بكل الطرق الممكنة لإقامة كانتونات عميلة في جوارها المغاربي تساعد في التمهيد لأحلام الجنرالات بتأسيس الجمهورية البومدينية الكبرى المهيمنة على محيطها الإقليمي والمسيطرة على ثروات ومقدرات الشعوب المغاربية التي يعتبرها العقل الشمولي الذي يحكم الجزائر في ستينيات القرن الماضي مجالا حيويا يغذي أطماعه في بناء قوة إقليمية كبرى في الجناح الغربي من العالم العربي تشبه نظام مصر الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حيث حققت الوحدة مع سوريا في 1958 وحاربت في اليمن ودعمت الانقلابات العسكرية في كل من ليبيا والعراق وسوريا والسودان والجزائر حيث كانت لها سطوة ديبلوماسية على شعوب العالم الثالث وشكلت إلى غاية هزيمة حرب 67 حائط الصد العربي ومانعا قوميا أمام تمدد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة.
ورغم تغير المناخ الجيوسياسي العالمي وبروز قوى عالمية جديدة وفكر أممي جديد يرنو إلى نشر قيم السلام المستدام والتعايش السلمي بين الشعوب في مواجهة التحديات العالمية الجديدة وفق منظور تشاركي متعدد الأطراف خاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي وصعود الإمبراطوريات الجديدة العابرة للمحيطات بديلا على القطبية الثنائية وبروز تكتلات ومنتديات جهوية كبرى، فإن الفاعل السياسي الجزائري اليوم لا زال رهينا عقلية كلاسيكية غارقة في الشوفينية التي تجاوزها التاريخ حيث تمتح من قاموس الحرب الباردة المحددات الكبرى الأيديولوجية لفكره السياسي والاجتماعي، لذا لا زالت القيادة الجزائرية وطبولها الإعلامية تتغنى بشعارات سنوات الستينيات والسبعينيات عندما اختارت “جمهورية الخوف البومدينية” داخليا سياسة القمع والتنكيل لكل الأصوات المعارضة وخارجيا دعم الحركات الثورية والانفصالية لتوفير تغطية ديبلوماسية لمشروع تمدد النفوذ الجزائري في المحافل الدولية خدمة لمشروعها الإقليمي الذي استهدف بشكل رئيسي تقسيم المملكة المغربية التي يعتبرها هذا النظام الصخرة التاريخية والأبدية التي تتكسر عندها سفينة الأحلام التوسعية البومدينية في توفير إطلالة على الواجهة الأطلسية.
عقيدة الصدام الإقليمي التي اختارها النظام الجزائري لتحقيق أهدافه التوسعية أدت وتؤدي وستؤدي ثمنها الشعوب المغاربية حيث كانت لها آثار انعكست بشكل سلبي على جهود التنمية بها وأول ضحاياها هو الشعب الجزائري الشقيق الذي بددت مقدراته وصرفت ثرواته بشكل غبي في سياسات عسكرية فاشلة وصفقات سلاح معيبة بمئات الملايير من الدولارات حيث رصدت ميزانيات كبرى من جيوب دافعي الضرائب الجزائريين لتمويل جماعات إرهابية وانفصالية تهدف أساسا لزعزعة الاستقرار الإقليمي.
للأسف طوال عقود ورغم تغني النظام الجزائري بأسطوانة “الجزائر مكة الأحرار” و “قبلة الثوار” وغيرها من الشعارات الرنانة فإن هذا النظام فشل في خلق فرص سلام حقيقية مع محيطه الإقليمي وتورط طوال عقود في دعم ميليشيا إرهابية خاضت حربا خسيسة بالوكالة فوق الأراضي المقدسة للمملكة المغربية بهدف فصل صحرائها عن باقي أراضي الوطن، هذه الحرب كان لها ثمن فادح إقليمي حيث عطلت بشكل مباشر كل جهود التنمية والتكامل والوحدة بين الشعوب المغاربية.
النظام الجزائري ظل لعقود ولا زال يضع المتاريس الديبلوماسية والسياسية في وجه كل توجه وحدوي يخدم مصلحة الشعوب المغاربية في بناء فضاء إقليمي ديمقراطي أو حتى في تطور علاقات ثنائية تصل إلى مستوياتها العادية جدا في التأسيس لشراكات إستراتيجية مستدامة وفاعلة بين دول تجمعها أواصر التاريخ المشترك والمصير المشترك والعديد من المشتركات التي من الممكن أن تشكل مداخل حقيقية لمغرب الشعوب الديمقراطي الذي ظل ولا زال حلم الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة في كل الدول التي تنتمي لهذا المجال الجغرافي المتميز والفريد.
اليوم وفي ظل التغيرات الجيوسياسية الكبرى المهددة للأمن الدولي والقاري والإقليمي لا زالت السياسة الخارجية الجزائرية غير قادرة على بلورة مواقف تصب في خدمة جهود الاستقرار ولا زال السلوك الديبلوماسي الجزائري يشكل عبئا سياسيا على التوجهات الإقليمية المستقبلية للشعوب المغاربية وطموحاتها المشتركة في عالم التكتلات الجهوية الكبرى التي تخدم المصالح المشتركة لشعوبها حيث أدرك العقل السياسي العالمي أهمية هذه التكتلات الجهوية في تعزيز جهود التعاون والتكامل بين الدول الأعضاء لتحقيق الاستقرار الإقليمي والعالمي ودعم جهود التنمية ورفاهية الشعوب وذلك بترقية المبادلات التجارية والاستثمار وتبادل المعرفة والتكنولوجيا بين الدول الأعضاء وتعزيز الأمن ومكافحة التحديات الأمنية المشتركة مثل الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب كمجلس التعاون الخليجي ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) ومجموعة دول آسيا الوسطى المعروفة باسم دول “ستان الخمسة (C5)” والسوق المشتركة الجنوبية ميركوسور والإيكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا).
اليوم للأسف لا زالت الشعوب المغاربية خارج هذا السياق العالمي بسبب السياسات الجزائرية التي عطلت الاتحاد المغاربي كفضاء حضاري وتاريخي مشترك للشعوب المغاربية قادر على أن يشكل غطاء جيوسياسي صلبا لشعوبها ودولها وحكوماتها في مواجهة ما يعرفه العالم اليوم من صراع بين المحاور ومراكز القوى الصاعدة في العالم.
ما يلاحظه المتتبع للسلوك الديبلوماسي الجزائري منذ سنوات أنه يفتقر إلى لغة ديبلوماسية رصينة ومتماسكة ذات نفس سياسي مسؤول أثناء التعامل مع محيطها الإقليمي وجوارها القريب وهو ما قد تلاحظه صديقي القارئ وأنت تشاهد الندوة الصحفية التي أجراها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف قبل أسابيع مع وسائل الإعلام الجزائرية حيث تم تدجينها (وسائل الإعلام) بخطاب دوغمائي مؤدلج غارق في لغة الاستعلاء على الآخر وتحديدا في الأسئلة المتعلقة بالعلاقات الثنائية مع محيطها الإقليمي حيث في مشهد كوميدي ارتدى السيد وزير الخارجية الجزائري جبة وزير الخارجية التونسي بلا حياء ولا خجل وتحول إلى ناطق باسم الديبلوماسية التونسية كأنه يريد أن يبرهن للعالم أن تونس اليوم فقدت سيادتها وأصبحت تلعب دور الدويلة العميلة للنظام العسكرتاري الجزائري الذي ورط نظام قيس سعيد في العديد من المواقف الإقليمية المغايرة تماما للمواقف التقليدية لجمهورية تونس بتاريخها العريق حيث حولها إلي “بارشوك جيوسياسي إقليمي” يخدم مصالح جنرالات الجزائر سواء في القضايا الإقليمية كملف الصحراء المغربية والملف الليبي أو القضايا الدولية كملف الهجرة ومحاولة تدخل النظام الجزائري في الشراكة التونسية مع الاتحاد الأوروبي والموقف من اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط مما يشكل ضررا بالغا لمصالح الشعب التونسي والأمن القومي التونسي على المدى القريب والمتوسط.
لذا فسعي النظام الجزائري الدائم إلى تقزيم جواره الإقليمي بمحاولات يائسة لفرض واقع جيوسياسي جديد يتماشى مع حلم جنرالات هذا النظام بالريادة الإقليمية يصطدم في كل مرة برفض عالمي وإقليمي لهذا الدور المنشود والمشبوه، حيث يتم العمل في كل مرة على إعادة الوضع الإقليمي إلى طبيعته وفق المحددات الطبيعية والمنطقية والتاريخية والسياسية والاقتصادية التي تحدد بشكل تلقائي الدولة الرائدة والقائدة في أي منطقة جغرافية في العالم، فالجزائر اليوم بعد الحراك الشعبي تعرف ردة حقوقية وسياسية في آن واحد بأكبر عملية تهريبا سياسيا للمطالب الحقة للشعب الجزائري الشقيق في الحرية والكرامة والعيش الكريم عن طريق فرض رئيس محدود القدرات التواصلية والسياسية يخدم مصالح الطغمة العسكرية الحاكمة منذ عقود بحث تم استخدامه كواجهة مدنية للنظام العسكرتاري لتحوير مخرجات الحراك ومطالبه لاكتساب شرعية وهمية لتصفية حسابات دقيقة بين أجنحة الحكم المتصارعة في شقيها المدني والعسكري، لن نفصل أكثر في الإخفاقات الكبرى التي يعرفها الاقتصاد الجزائري في غياب رؤية إستراتيجية واضحة وإطار مرجعي متكامل يحدد المنطلقات والأهداف الكبرى التي تحقق للجزائر اقتصاديا قويا وتنافسيا قادرا على الجذب الاستثمار ورؤوس الأموال المساعدة في تحقيق التنمية، لأن الجزائر من الدول القليلة في العالم التي تعتمد بشكل كبير على صادرات النفط والغاز كمصدر رئيسي للعملة الأجنبية حيث تمثل صادرات النفط والغاز نسبة كبيرة من إيرادات البلاد، لتبلغ حوالي 93٪ من إجمالي النقد الأجنبي بحلول عام 2020، لتنخفض هذه الإيرادات من النقد الأجنبي إلى 23 مليار دولار، وهو تراجع كبير مقارنة بالإيرادات التي بلغت 60 مليار دولار في عام 2014، هذا يظهر تبعية واعتماد الاقتصاد الجزائري على النفط والغاز وتأثره بتقلبات أسعار النفط العالمية، بالإضافة إلى ذلك انخفضت احتياطات النقد الأجنبي للجزائر من 194 مليار دولار في عام 2014 إلى 42 مليار دولار في عام 2021، هذا التراجع الحاد في الاحتياطات يعكس الضغوط المالية التي تواجهها البلاد وتأثير انخفاض إيرادات النفط على قدرتها على تلبية احتياجاتها الاقتصادية بالإضافة إلى غياب الشفافية والحاكمة وتغول الفساد في هياكل الدولة الجزائرية وانعدام سياسات استثمارية مستقرة وشفافة توفر فرصا متساوية وقوانين واضحة وحماية لحقوق الملكية.
للخروج من هذه الوضعية وبدل أن يعمل النظام الجزائري على وضع رؤية إستراتيجية مبتكرة تهدف إلى تحقيق تنمية اقتصادية قوية وتنافسية بسياسات استثمارية مستقرة وشفافة تشجع على الاستثمار وتعزز الشفافية ومكافحة الفساد وتساهم في دعم الثقة في المؤسسات العامة والمناخ الاستثماري فقد فضل الهروب إلى الأمام بمحاولة فاشلة للانضمام إلى مجموعة دول البريكس التي تعمل وفق دفتر تحملات واضح وشفاف، فالجزائر اليوم بسبب سياساتها العدائية التي تستنزف الزمن التنموي لا تتوفر على الآليات والميكانيزمات القنينة بتنزيل دفتر التحملات هذا على أرض الواقع لتحقيق الاندماج السريع في تكتلات جيوسياسية ذات بعد اقتصادي وسياسي كمجموعة دول البريكس.
اليوم النظام الجزائري هو في حاجة ماسة إلى تسوية سياسية إقليمية يغطي بها فشله الذريع في إدارة العديد من الملفات الإقليمية التي حشر فيها نفسه باعتباره قوة إقليمية وهمية سواء في الملف الليبي أو ملف الصراع السياسي والدستوري في تونس أو ملف المصالحة في مالي والنيجر وهذا لن يتأتى إلا بسياسات خارجية للنظام الجزائري تتماشى مع مبادئ الشرعية الدولية والأمن العالمي والقاري بديلا عن السياسات التوسعية الفاشلة، فالتوافق مع الجار المغربي يظل هو حجر الأساس لأي انفراج قادم يخدم مصالح الشعوب المغاربية، فالمملكة المغربية من خلال إستراتيجية اليد الممدودة إلى الجار الجزائري لا زالت تراهن على سلام الشعوب الذي يخدم مصالح الأجيال القادمة ولا زالت تدفع إلى توافق إقليمي مغربي جزائري قد يكون بداية لتحول جيوسياسي إقليمي جديد في المنطقة.
هذا النظام أضاع فرصة تاريخية حقيقية لتحقيق دفعة سياسية كبرى للعلاقات المغربية الجزائرية أثناء أزمة زلزال الحوز وتارودانت حيث إن هذا النظام وبدل أن يسلك القنوات الديبلوماسية المتعارفة عليها دوليا لتقديم المساعدة والإسناد ويد العون بين الدول في إدارة الكوارث الطبيعية بتقديم طلب رسمي مسؤول ومحترم كبقية دول العالم فإنه استغل هذه الأحداث المؤلمة لتحقيق أهداف خسيسة بعرض مجموعة من أفراد الوقاية المدنية الجزائرية في تقرير صحفي مصور تحت عنوان الجزائر تدعم جهود المغرب لإنقاذ المنكوبين والضحايا لتنطلق الآلة الإعلامية التابعة المخابرات في حملة هوجاء بئيسة تستهدف المغرب ومؤسساته وتروج الأباطيل والأكاذيب خدمة لأجندات داخلية دقيقة تظهر حقيقة هذا النظام ودوره الوظيفي لخدمة الأطماع الاستعمارية الجديدة في المنطقة.
ومع ذلك يجب أن نراقب القناعات والسلوكيات والمواقف الفعلية للجزائر وأن نستند إلى الأفعال العملية والتطورات الفعلية في المنطقة لتقييم أي تغير يحدث فلدينا العديد من الملفات الإقليمية التي يمكن استخدامها كمعايير لقياس أي تغيير في سلوك الجزائر ومن بين تلك الملفات المحددة هي الصحراء المغربية والملف الليبي واستقلالية النظام التونسي والوضع الأمني والإنساني في الساحل الإفريقي.