بقلم/ حنان النبلي
لا يُجهّز المرء نفسه أبداً بشكلٍ كافٍ لمفاجآت الحياة ولا لسلسلة الصدمات فيها، هكذا قد تصفعه من دون سابق إنذار بكارثة يدفع ثمنها روحه، وإن نجا يكون شاهداً على أحداث مأساوية. هذا ما حدث بالفعل، ليلة الجمعة 8 سبتمبر/أيلول الجاري، حيث تحركت الأرض بقوة 7 درجات مُحدثة نزيفاً جماعياً في الوطن برمته.
الصدمة ما زالت عالقة في حلقي، وثقل عظيم يجثم فوق صدري كصخرة، من هول ليلة عصيبة عشتها لأول مرة في حياتي رفقة أفراد أسرتي، حيث اهتزت بنا الأرض في البداية بشكل خفيف، غير أن قوتها زادت بسرعة، فارتجت جدران الغرفة التي كنا نجلس مجتمعين فيها. فجأة سُمع صوت ارتطام زجاج الثريا المعلقة ببعضها، ثم سقطت لوحة معلقة في البهو وتناثر الزجاج، ليكتمل مشهد الرعب…إنه الزلزال.
الزلزال إحساس هلع وذهول…اللهم لطفك ورحمتك…لحظات رعب دفعتنا نحو الهروب طلباً للنجاة. حمل زوجي غيثة ذات السنتين، ولاذ مسرعاً نحو الباب وهو يردد: اهربوا اهربوا. تبعته مذعورة رفقة الأولاد ريم ومحمد أمين وقريبتي على وقع صرخات تعالت في العمارة.
كانت الأجساد تركض نحو الخارج، والألسنة تلهج بالشهادة، ظن الجميع أنها النهاية.
كان ذلك اليوم بالذات يوم جمعة حزيناً، طبع في الذاكرة تاريخه وتوقيته على الساعة الحادية عشرة و11 دقيقة مساء بالتوقيت المحلي، كوشم عصي على النسيان.
تجمهر الناس في الشارع، كباراً وصغاراً. انقلب الحي رأساً على عقب، سمع صوت تلاوة القرآن “إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى”… وفيما انشغل البعض بوصف لحظات الرعب الأولى، كان آخرون يجربون الاطمئنان على أسرهم البعيدة بعد أن استعادوا أنفاسهم، غير أن شبكة الاتصالات كانت مقطوعة.
ز..ل…ز…ا…ل تنطق ابنتي ريم حروف الكلمة بمشقة وعناء وصوتها يرتعد من الخوف، كيف لا وهي تعيش التجربة للمرة الأولى، ثم تسألني: هل سنموت يا أمي؟ يأتيها الجواب مني بعناق حار وكفكفة الدموع التي بللت وجنتيها الصغيرتين، وطمأنتها بأن كل شيء سيكون على مايرام.
كانت الصدمة الملمح الأبرز للوجوه المحيطة بي، سُجّلت حينها حالات إغماء بين كبار السن، ونوبات بكاء هستيري بين بعض الأطفال والنساء، في غمرة كل هذا، لم تكن هناك أي معلومة موثوقة، وكل ما وصل من معطيات ناقصة أو مغلوطة.
ليلة بيضاء قضيناها في الشارع هنا في مدينة الدار البيضاء، حالنا كحال معظم المغاربة الذين افترشوا الأرض، فيما لاذ آخرون بسياراتهم خوفاً من حدوث هزات ارتدادية، لا يمكن التنبؤ لا بعددها ولا زمنها ولا مقياسها، وتحسباً لانهيار المنازل فوق رؤوس ساكنيها، فمن لم يقتله الخوف تردمه الأنقاض.
إنها ليلة لم تغمض فيها الجفون إلى مطلع الفجر.
في اليوم التالي، اتضح كل شيء، وتدريجياً بدأت الأخبار تتوالى عما حل بمناطق واسعة في المغرب، وعن القوة التي ضرب بها الزلزال قرى بعيدة ونائية في أقاليم المملكة، وشعر به سكان مدن أخرى ووصف بأنه الأعنف منذ 120 عاماً.
في تلك اللحظة التي امتزج فيها التوتر بالتعب والانكسار، صبيحة يوم السبت 9 سبتمبر، كان عليّ الالتحاق بعملي ومباشرة مهمتي في مهنة المتاعب متحدية كل الظروف، ومن جهة أخرى، مواصلة القيام بدوري في متابعة أحوال الأنباء، وتعزيز شعور الأمان لديهم بعزيمة قوية.
كان صدى صوت أمي يتردد في داخلي: “لا يجب أن نقنط من رحمة الله، ولا أن ندع الخوف يأكل قلوبنا، تجلدي يا ابنتي، فكل شيء قضاء وقدر ولا راد لقضائه، الأعمار بيد الله، والله لطيف بعباده”، مطمئناً لي في تخطي الحالة النفسية التي أتخبط فيها، والتي لا تساوي شيئا أمام هول مآسي الأسر الذين اكتووا بنار الفراق، وسُويت مبانيهم بالأرض ولم يبق غير الركام والغبار.
وسريعاً تكاثفت الجهود للإنقاذ والوصول إلى المصابين والعالقين تحت الأنقاض، بينما الأنظار والقلوب تظل معلقة يومياً بالأخبار عن أوضاع الناس في المناطق المنكوبة.
لقد استقرت الفجيعة في شكلها الأكثر ترويعاً، قتلى بالآلاف، جثث تحت الأنقاض، دموع أيتام، مبان منهارة، دمار ونكبة أمة، تنكيس أعلام وحداد على ضحايا الزلزال.
لكن ما يثلج الصدر في المقابل هبة التضامن الشعبية والمبادرات المختلفة التي قيل عنها إنها أقوى من ارتدادات الصفائح التكتونية، قادها المغاربة لدعم المتضررين والمنكوبين من هذه الكارثة الطبيعية والتخفيف من مصابهم، والشد على أيديهم تحقيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي وإعلاء لروح الوطنية وانتصاراً لكل معاني الإنسانية “كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
المصدر: العربي الجديد