لم يكن مسار بناء الدولة العربية بالأمر الهين، لقد سادت القبلية والتعصب منذ النشأة، فكانت مسألة بناء الدولة القوية والمنظمة مطروحا منذ البداية، لكن ظل السؤال المطروح دوما: ما هي الاستراتيجيات للقيام بذلك كما تساءل فوكوياما، فهل كان الدين المحدد الرئيسي والجزء المهم في المعادلة أم كانت هناك اعتبارات أخرى، وهل لا زالت نفس المحددات تتحكم اليوم في بناء الدولة الحديثة في مجتمعات أنهكها العصيان المدني، والخراب والحروب.
لكن في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، الديمقراطية ليست إلا أنشودة نتغنى بها صباح مساء، على شاشات التلفاز وفي الخطابات السياسية لنخبة سياسية فاسدة تتفنن في إلقاء الخطب الرنانة أمام شعب يسمع ولا يريد أن يفهم، أو أن الديمقراطية لا تحمل نفس المفهوم عندنا، أو أننا مبدئيا لم نفهم بعد المفهوم وأبعاده وحيثياته، وكيف يمكن تطبيقه في بيئتنا المختلفة أكيد عن البنيات الأخرى، ويختلف عن ما هو موجود في الغرب وفي أماكن أخرى من المعمور.
لذا يبدو لي بديهيا، فهم ما يجري فعليا على الساحة العربية اليوم، وفهم ما حصل فعليا لقرون في مجتمعات استسلمت لتعيش على هامش الحضارات العالمية، رغم الثروات الطبيعية التي تنعم بها العديد من الأقطار العربية، إلا أنها لم تستثمر بالشكل الجيد، ولم يتم الاستثمار في الإنسان بل ذهب الاستثمار للعقار والتنمية الغير المستديمة.
فالفساد المنتشر بشكل لافت للنظر، لا يمكننا من بناء الصرح الديمقراطي الذي ننشده، ومهما غطت الحكومات العربية عن العديد من الحقائق فإنها لن تصمد كثيرا حتى تظهر للعيان. فالحقيقة كما يرى الكاتب الفرنسي إيميل زولا: “الحقيقة عابرة سبيل ولا احد يستطيع اعتراض سبيلها”، سواء اليوم أو غدا، فالحقيقة ستخرج للعلن، في حين الديمقراطيات الغربية تتغير كل أربع إلى خمس سنوات، فتجدد كل شيء، تعطي آمالا أخرى، ونقاشات وسجالات أخرى، تفتح نوافذ على غد أفضل حيث يشارك الجميع في صنعه وحيث المواطن شريك في العملية السياسية ومناضل من أجل مستقبل وطنه.
نعم يمكننا تطوير أنظمتنا العربية، فهي ليست جامدة أو مقدسة بل مفروض عليها أن تتطور لكي لا تعيش خارج تاريخ الدول الحديثة وخارج الدينامية الديمقراطية التي تخترق الكثير من المجتمعات العالمية. لتحقيق ذلك علينا أن نصحح الكثير من الأخطاء ونسد الكثير من الثغرات التي أصابت الجسم السياسي العربي حتى لا ننهار كليا، لان الانهيار لا يأتي فجأة كما قال الرئيس الروسي السابق غورباتشوف في كتابه: “إن انهيار الشيوعية لم يبدأ بسقوط جدار برلين، بل بانهيار المفاعل النووي في تشيرنوبيل قبل ذلك بخمس سنوات. إن الكارثة التي نتجت عن تشقق مفاعل تشيرنوبيل فتحت الباب للتعبير عن الحقائق، وأصبحت حقيقة تجر إلى أخرى.” فانهار الاتحاد السوفياتي الذي لم يستطع سد ثغرة في مفاعل ضخم بسبب البيروقراطية والاستبداد والجموع الذي طال الاتحاد السوفياتي سابقا.
أخطر شيء يهدد الدول الساعية للنمو وتحقيق المجتمع المنشود هو الجمود، هو الاستئناس بواقع مخيف لكنه مرضي، هو سياسة لم تتأقلم مع معطيات دولية وجيوسياسية، وعدم تقبل الإصلاح والابتعاد عن كل فكر تغييري وجعل مصالح الأشخاص فوق مصالح الدولة والمواطن.